آن لوسطاء مفاوضات غزّة أن يتدخّلوا

محمود الريماوي

هل يتم اجتياح رفح وفق تهديدات بنيامين نتنياهو وأركان حكومته ومجلس حربه، أم يمتنع عن استهداف المدينة المحاذية للحدود مع مصر والمكتظّة بنحو مليون وربع مليون نازح غزّي؟ لا يطمس هذا التساؤل، على أهميته الشديدة، غايات أخرى لا تقلّ أهمية وراء ترديد هذا “النشيد اليومي” من قائدي حرب الإبادة، نتنياهو، ووزير حربه المسعور يوآف غالانت، إذ من شأن التهديد المتواصل باستهداف رفح التي باتت مدينة خيام صرف الأنظار عن  الفظائع اليومية التي يقترفها في هذه الغضون جيش الاحتلال، وعن الاستهداف الدنيء والمتكرّر لمنتظري المساعدات، إلى استباحة ما بقي من مستشفيات والتنكيل بالمرضى والأصحّاء من طواقم طبية ومن نازحين ومن ذوي المرضى ومن فنيين وإداريين كما جرى في مجمع الشفاء. وحين جرى تذكيرالرئيس الأميركي، جو بايدن، قبل أيام، وبصوت عالٍ، من محتجّين في أثناء تخصيص يوم من حملته الانتخابية للرعاية الصحية بأن غزّة تحتاج رعاية صحية ووقف استهداف المستشفيات، لم يجد الرجل ما يقوله سوى أن وجهة النظر هذه صحيحة. ولكن من دون أن تترتب أية التزامات على هذا الإقرار من بايدن، فالضحايا هم من أهل غزّة وليسوا من الأسرى الإسرائيليين حتى يتأرّق بخصوصهم.

غاية أخرى يسعى إليها نتنياهو الذي يعتبر الفتك بالمدنيين نشاطاً سياسياً، تتمثل بالضغط على حركة حماس، كي تقبل بصفقة  تبادل لا تنهي الحرب ولا تؤدّي إلى انسحاب القوات الغازية، ولا تضمن عودة النازحين إلى ما كانت بيوتهم ومصادر أرزاقهم، فقد سبق أن تمسّك وفد حكومة الاحتلال بعودة بطيئة للنازحين، ولكن مع تشتيت العائلات ومنع أرباب الأسر من العودة. وتبدي “حماس” صلابة مشروعة في رفض الانصياع للضغوط الوحشية على المدنيين، خلافاً لصلابة برزت في أسابيع سابقة من التفاوض، وبدت مُبالغاَ بها أحياناً، فإذا كانت “المقاومة بخير” كما لا ينفكّ مسؤولون في الحركة عن التصريح، فإن أحوال الناس ليست بخير أبداً. في حالات أخرى، وكما حدث في الحرب الطويلة على السوريين، جرت تفاهمات بين الأطراف المعنية بشأن خفض التصعيد، شيء من ذلك كان وما زال مطلوبا العمل عليه من الوسطاء، وبالذات الأميركيون، بشأن هدنة غزّة الممتنعة، إذ إن استمرار التصعيد يسمّم أجواء مباحثات الوساطة، بما فيها التفاوض غير المباشر.

وبينما يرفع  نتنياهو عقيرته، هو ووزيره الدموي غالانت، بالتهديد اليومي بالاجتياح، فإن رفح المنكوبة (ومعها دير البلح القريبة منها) تتعرّض بصورة شبه يومية  لقصفٍ يستهدف البيوت ومنتظري المساعدات . وبهذا، ليست رفح بمعزل عن  السعار الحربي، حتى مع عدم اجتياحها على نطاق واسع. وبهذا، يمارس الرجل القتل اليومي هنا وهناك، بما في ذلك ضد رفح، فيما يسوّق نفسه أن المدينة ليست في مرمى أهدافه حاليا، وأنه يستعد لاجتياحها لاحقاً، سواء رضيت الولايات المتحدة عن ذلك أم غضبت، وفق تصريح لمستشاره “الاستراتيجي” رون ديرمر. وقد شهدت زيارة غالانت، أخيرا، الى واشنطن ولقاؤه مسؤولين فيها، منهم نظيره لويد أوستن، أجواء من الخلافات الفنية بين الطرفين عن أفضل الطرق للإطباق على رفح  وعلى حركة حماس فيها. ويتبجّح أوستن، كما فعل من قبل، بالقول إن استهداف المدنيين خطأ استراتيجي وأخلاقي … غير أن الوزير الأميركي وقد سبق له الإقرار بقتل أصدقائه في تل أبيب آلافاً مؤلفة من النساء والأطفال، فإنه لا يقرن ذلك بإدانة  الأداء البربري لأصدقائه، ولا يشير إلى خط أحمر أو ما يُشاكله، معتبراً أن جرائم أصدقائه مجرد أخطاء، فما دام القاتل إسرائيليا وما دام الضحايا هم من الفلسطينيين، فإن الأخطاء في حكم المغفورة، ولا تترتب عليها تداعيات قانونية وسياسية.

وبناء على ما تقدّم، أي اجتياح محتمل لرفح قد تصاحبه ادّعاءات من حكومة الاحتلال بأنه قد تم أخذ الملاحظات الأميركية في الاعتبار، وأن الأهداف المقصودة للاجتياح ذات “قيمة نوعية” وتندرج في إطار مكافحة الارهاب. والمغزى أن مجلس حرب نتنياهو سوف يعمد إلى حملة تضليل مفادها بأنه قد جرى عملياً تقليص نظاق العمليات، بحيث تتركّز على أهداف متعلقة بحركة حماس وغيرها من  فصائل المقاومة، وأن الفرصة متاحة لخروج أعداد من النازحين في نزوح جديد إلى خيام جرى استيرادُها لهذه الغاية من الصين، وعددها 40 ألف خيمة. وحتى إن تم تأجيل اجتياح محتمل، فإن نتنياهو لن يكفّ عن استخدام التهديد بالاجتياح ورقة ضغط، وأداة  للإلهاء عما يقترفه في هذه الأثناء، ذلك أن الوضع الإنساني كارثي بصورة تفوق الخيال، وهو ما لا يكفّ مسؤولو الأمم المتحدة عن التصريح بشأنه، بما في ذلك التصريحات الشجاعة للأمين العام النزيه أنطونيو غوتيريس.

وهكذا، سواء تم اجتياح رفح في هذه الآونة أم لا، فإن الأحوال في عموم القطاع مروّعة، إذ لا يجد ذوو الضحايا أحيانا أماكن لدفن أحبائهم، ولا تتاح الفرصة لاحترام حرمة الموت بإخراج ضحايا آخرين من تحت الأنقاض، وكل المساعدات التي تصل لا تنقذ أبناء الشمال في جباليا ولاهيا وبيت حانون من خطر المجاعة، فيما تحيق المخاطر بنزلاء ما تبقى من أقسام المستشفيات، فيما لا يأمن أحد على نفسه تحت سقف بيته ممن سلّمت بيوتهم، وبما أن أطراف الوساطة، أميركا ومصر وقطر، يشكلون معا الثلاثي المنوط به شقّ الطريق نحو هدنة طويلة تؤدّي إلى وقف إطلاق نار مستدام، فربما ليس هناك من بديلٍ في هذه الظروف سوى أن تؤدّي أطراف الوساطة معا دوراً سياسياً يتعدّى رعاية التفاوض وتنشيطه وإدامته، إلى القيام بضغوط مشروعة على الطرفين، من قبيل العودة إلى مبادئ اجتماع باريس الشهر الماضي (فبراير/ شباط)، وأن تعمل أطراف الوساطة معا على وضع تصوّرات متفق عليها بينهم، ومُلزمة للطرفين المتفاوضين، بحيث تتولى كل من مصر ودولة قطر الضغط عند الاقتضاء على حركة حماس للقبول بتلك الصيغة المأمولة، فيما يتعهد الجانب الأميركي بالضغط على حكومة الاحتلال لقبول الصيغة المنشودة. ولا شك أن مقاربة من هذا النوع أو تدخّلاً على هذا المستوى سوف يحظى بأوسع قبول وسوف ينال ما يستحقه من تأييد، وسوى ذلك سوف يواصل نتنياهو شراء الوقت ووضع العصيّ في عجلة التفاوض،  وإدامة الحرب الوحشية على المدنيين والأعيان المدنية، سواء تم اجتاح رفح، وهذا غير مُستبعد، أو لم يتم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى