أصابع الفرقاء في ليبيا تقترب من الضغط على الزناد

الجمعي قاسمي

 

اقترب التأجيج السياسي بين رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية عبد الحميد الدبيبة وخصمه رئيس الحكومة المُكلفة من البرلمان فتحي باشاغا كثيرا من المربع الأشد خطورة، الذي تتعرج فيه الخنادق والمتاريس التي تفتح على انفجار أمني بات قاب قوسين.

ويُنذر إيقاع هذا التأجيج الذي يهتز منذ عدة أيام على وقع تعبئة هستيرية وسط نفير عسكري لميليشيات غرب ليبيا، بأن أوراق الضغط التي تواتر التلويح بها لإحداث ثغرة في الانسداد السياسي الراهن قد استنفدت جدواها، ولم تعد قادرة على وقف الانهيار المُتدحرج نحو الصدام.

ولا تترك المؤشرات المُصاحبة لهذا التأجيج المجال للشك بحجم الهوة بين مقاربة الطرفين لمعالجة المأزق، حيث تؤكد الوقائع على الأرض أن الأصابع أصبحت على الزناد، بانتظار الضغط عليه عندما تحين ساعة الصفر التي يبدو أنها لن تتأخر كثيرا.

ويُعتقد على نطاق واسع أن هذا الأمر أصبح مسألة وقت ستُحدده حسابات الأجندات التي تشابكت خيوطها بمعايير سياسية، وأخرى أملتها عنجهية عسكرية لقادة الميليشيات الذين أكثروا من تحركاتهم وسط ضجيج السلاح في مناطق مُتفرقة من الغرب الليبي.

وقد عرف الغرب الليبي الذي يتململُ على وقع تلك التحركات، اشتباكات مُسلحة جرت وسط العاصمة طرابلس، وكذلك أيضا في مدينة الزاوية، فيما تشهد مدينة مصراتة تحشيدا غير مسبوق ارتسم على الأرض في مشهد خطير لم تحجبه التباينات الحادة بين الكتائب المُسلحة.

وفي تفاصيل هذا المشهد والاهتزازات التي تُحيط به، اندلعت مواجهات عنيفة في منطقة الشرفاء وسط مدينة الزاوية بين مُسلحين تابعين لجهاز دعم الاستقرار الموالي للدبيبة، وجهاز المباحث الجنائية فرع الزاوية أسفرت عن سقوط عدد من القتلى والجرحى.

الاشتباكات جاءت بعد أيام قليلة من تسجيل تحركات عسكرية ازدحمت بها العاصمة التي وصلتها أرتال مُسلحة كبيرة من عدة مدن بالمنطقة الغربية لتتمركز أمام منشآتها الحيوية، فيما ظهرت في جنوبها المتاريس والسواتر الترابية.

وتتالت أنباء حول تحركات عسكرية لافتة ترافقت مع رصد تحرك مدرعات والعشرات من السيارات رباعية الدفع مزودة بأسلحة ثقيلة ومتوسطة نحو طرابلس، التي وصلتها قبل ذلك وحدات أخرى تابعة لميليشيات الزنتان والزاوية.

كما دخلت طرابلس العشرات من السيارات المُسلحة التابعة لميليشيات مصراتة، لتتحول إلى ما يُشبه الثكنة العسكرية التي تعج بالسلاح الداعم للدبيبة الذي استشعر خطر خصمه باشاغا الذي كثف هو الآخر من تحركاته بحثا عن دعم سياسي ولوجستي لدخول طرابلس.

وارتفعت هواجس الدبيبة في أعقاب الاجتماع الذي عقده باشاغا مع فتحي الغزيل قائد المجلس العسكري لثوار الزنتان، وعبدالله الخطابي قائد كتيبة ثوار صبراتة، ثم تحولت إلى هلع بعد التحركات الميدانية التي استهدفت غلق العديد من الحقول النفطية.

وأخذت تحركات باشاغا بعدا إضافيا اختلطت فيه الحسابات، بعقده اجتماعا لحكومته في سبها، لتُشكل هذه الخطوة التي ترافقت مع زيارات ميدانية شملت مدن الجنوب، منها الجفرة وهون، جملة من الاعتبارات الجديدة التي عمقت مخاوف الدبيبة.

ودفعت هذه المخاوف الدبيبة إلى الاستنجاد سياسيا بالجزائر التي انتزع منها اعترافا غير مسبوق بشرعيته جاء على لسان الرئيس عبدالمجيد تبون، إلى جانب مواصلة كسب ولاء قادة الميليشيات وأمراء الحرب في الغرب الليبي منهم عبدالحكيم بالحاج القيادي السابق في ما يعرف بالجماعة الليبية المقاتلة.

وشكلت عودة بالحاج الذي يرأس حزب الوطن إلى طرابلس بعد غياب دام أكثر من خمس سنوات أمضاها بين قطر وتركيا، رسالة لا تخلو من الاستفزاز من خلال توقيتها الذي يُؤشر إلى مقاربة تعيد اصطفاف المواقف على أساس حسابات العلاقات الدولية وتوازناتها.‏

ولا تُغفل تلك الحسابات موازين القوى في الداخل الليبي، رغم أنها تبدو مُترددة في جزء منها، وتنتظر تغيير الظروف السياسية وربما الميدانية، خاصة بعد الاجتماع الذي عقده عدد من قادة ميليشيات مصراتة الذي انتهى بدعوة الدبيبة وباشاغا إلى عدم التصعيد العسكري وتجنيب طرابلس الحرب.

وتُشير هذه التطورات إلى أن الدبيبة الذي يُدرك جيدا أن تحركات خصمه باشاغا ما زالت مفتوحة على خيارات أخرى مُرتبطة بسياق الترتيبات الجارية لضمان دخوله طرابلس، أصبح رهانه في هذه الفترة مُشتّتا بين الحفاظ على ولاء الميليشيات له، وحدوث تبدل في المواقف الإقليمية والدولية.

لكن رهانات الدبيبة التي جعلته يُعول على إمكانية “خنق” باشاغا سياسيا على الصعيدين الإقليمي والدولي، ما زالت تصطدم بالكثير من العراقيل بسبب تداعيات الحرب في أوكرانيا المفتوحة على كل الاحتمالات، ما أفقد الملف الليبي عدة درجات في سلم الاهتمام به.

وينطبق هذا الوضع أيضا على باشاغا الذي لم يتمكن حتى اللحظة من انتزاع اعتراف إقليمي ودولي لافت بشرعية حكومته، لذلك تحرك نحو النفط كورقة من أوراق التعويل على كسب الرهان، لإدراكه أهمية هذه الورقة لإحداث رجة من شأنها تحريك المواقف.

وإلى حد ما نجح باشاغا في ذلك، حيث التفتت إليه المستشارة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة بشأن ليبيا ستيفاني ويليامز التي اتصلت به هاتفيا على وقع أزمة إغلاق حقول النفط لتطلب منه إنهاء هذه الأزمة، والنأي عن استخدام النفط كسلاح لأغراض سياسية.

ورغم أهمية هذه الخطوة التي تأتي قبل جلسة مجلس الأمن الدولي المُقرر عقدها الخميس لمناقشة التجديد من عدمه لمهمة ستيفاني ويليامز في ليبيا، فإن الوضع يبقى مع ذلك محكوما بجملة من القواعد المُتحركة، وسط حالة من الانتظار المحمول على أجندات مُتنافرة.

ويصعب مع هذه الأجندات الجزم بمآلات هذا الوضع، لكن المؤكد أن هناك عدة سيناريوهات على طاولة بعض القوى التي تعمل على رسم خطوطها، نحسب أن أقربها إلى الواقع تقود نحو مواجهة مُسلحة محدودة في الزمان والمكان، يكون نتاجها الآني تحريك الوضع بما يُسهل تسويق أي حل حتى وإن كان مؤقتا.

لقد اقتربت أصابع الفرقاء في ليبيا كثيرا من الضغط على الزناد لتغيير معادلات الصراع الداخلي، وما يجري حاليا من تحشيد متواصل واشتباكات هنا وهناك، ليس سوى تمهيد لمواجهة بعنوان إعادة تشكيل المشهد بتحريك قواعد ارتكازه باتجاه مُحاولة فرض معادلة جديدة لصراع طال أمده.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى