أفغانستان تنهار أمام طالبان: أين المفاجأة؟

محمد قواص

تكشف التطورات الأخيرة في أفغانستان أن الولايات المتحدة ترعى دون لبس “تسليم” البلد إلى حركة طالبان. والأمر منطقي لجهة أن المفاوضات في هذا البلد لم تجر، كما هو حال العراق، بين أميركا والحكومة، بل بين واشنطن وحركة طالبان المتمردة دون غيرها.

فإذا ما جاء قرار التفاوض مع “طالبان” نتيجة ضغوط عسكرية دموية مارستها الحركة على القوات الأجنبية، فإن قرار انسحاب تلك القوات يعني رفع موانع الانتشار الطالباني السريع الذي يشهده البلد خلال الأيام الأخيرة.

استيلاء حركة طالبان على السلطة في البلاد هو مسار بديهي يعيد البلد إلى الوضع الذي كان عليه قبل الغزو الأميركي عام 2001. ببساطة تعيد واشنطن أفغانستان إلى الطرف الذي كان يحكمها وكأن عشرين عاما من الزمن كانت مرحلة عرضية وتفصيلا في تاريخ هذا البلد. وما تغير خلال عقدين هو كل شيء. تغير العالم، وتغيرت “طالبان”، وتغيرت الولايات المتحدة، وتغيرت المنظومة الغربية، وتغيرت مصالح الدول المعنية بمصير أفغانستان، وتغير خرائط الإرهاب وهياكل تنظيماته.

تتولى واشنطن ولندن وبرلين وبقية العواصم المنخرطة عسكريا في الصراع الأفغاني إدارة “الخيبة” التي يستولدها قرار الرئيس الأميركي جو بايدن بالانسحاب الكامل من أفغانستان. يوحي المشهد أن واشنطن وحلفاءها يقرّون بالهزيمة والفشل، ويسعون إلى لملمة هذه الفوضى، وتنظيم سحب الجنود والرعايا والمتعاونين المحليين، وحفظ ماء الوجه، والتخفيف من مظاهر الاندحار، وتوفير صيغ وفتاوى واجتهادات تسعى للتسويق لدى الرأي ردود فعل على ما يدّعون أنه مفاجأة صاعقة في أفغانستان.

في واشنطن يوجّه ميتش ماكونيل زعيم الأقلية الجمهورية في الكونغرس انتقادات إلى إدارة بايدن في شأن قرار الانسحاب وما يسببه من فوضى وعبث في أفغانستان. يرى الرجل أنه ما زال بإمكان الولايات المتحدة منع سقوط العاصمة كابل وإظهار جدية في الدفاع عن الحلفاء الأفغان. والواضح أن المناسبة الأفغانية توفّر للجمهوريين مادة لإطلاق السهام صوب الإدارة الديمقراطية. تأتي تلك المناورة دون أي حرج من أن قرار الانسحاب الأميركي هو مسار بدأه الرئيس الجمهوري السابق دونالد ترامب، وأن ورش المفاوضات مع طالبان جرت في عهده، وأنه أعلن عن سحب آخر جندي أميركي من هناك بحلول عيد الميلاد 2020، وأن قرار بايدن والاتفاق مع الحركة الأفغانية المتمردة جاء استكمالا لاستراتيجية الإدارة التي كان يقودها سلفه.

في الساعات الأخيرة استفاقت لندن على الوضع الجديد في أفغانستان. يكتشف وزير الدفاع البريطاني بن والاس أن أفغانستان، التي تعرفها بلاده جيدا ولها معها تاريخ من التجارب والخبرات، بلد معقّد لطالما توزّع بين قبائل وحكَمهُ أمراء حرب. يدافع الرجل عن إنجازات التجربة الأفغانية منذ سقوط نظام طالبان قبل عقدين، ويعجز عن الدفاع عن انهيار تلك التجربة وعجز مؤسسات الدولة الأفغانية عن الدفاع عن نفسها أمام ميليشيات لا تمتلك إمكانات تسليحية استراتيجية مهما اشتد بأسها.

يَعِدُ الوزير البريطاني بـ “أننا قد نعود” إذا ما عادت أفغانستان لتكون حاضنة لجماعات الإرهاب. لا يستبعد في تصريحاته عودة تنظم القاعدة بما يعكس إقرارا من قبله أن بريطانيا والولايات المتحدة وكل المنظومة الغربية التي لبت نداء الرئيس جورج بوش الابن إثر اعتداءات 11 سبتمبر 2001، فشلت في معركة مكافحة الإرهاب، بحيث أن “القاعدة” تعود عندما “طالبان” تعود. والواضح أن الوزير يتوجّه إلى رأي عام بريطاني غير مهتم بما يجري في أفغانستان وغير مهتم بمرافعات الحكومة ورئيسها ووزير دفاعها.

الذهاب لإسقاط أفغانستان قبل 20 عاما جرى وفق خطة استراتيجية ذات بعدين، الأول عسكري بامتياز، والثاني مرتبط بموقع واشنطن والمنظومة الغربية داخل خريطة عالم ما بعد الحرب الباردة. غير أن الخروج من أفغانستان يجري دون أي خطة استراتيجية، بحيث أن الغرب يتخلى عن هذا البلد عسكريا وجيوسياسيا دون أي تردد أو ندم. لسان حال واشنطن يقول إن أفغانستان لم تعد مشكلة أميركية غربية، لكنها باتت اليوم، دون لبس، مشكلة حقيقية وتحديا لدول مثل الصين وروسيا وإيران والهند وباكستان.. إلخ.

قد لا تشاطر واشنطن قلق لندن في مسألة عودة الإرهاب من البوابة الأفغانية. تملك أميركا من المعطيات ما يجعلها أكثر اطمئنانا وأقل انشغالا باحتمال تعاظم الإرهاب وتمدد قواه بعد استعادة طالبان للحكم في أفغانستان. كان قائد القوات المركزية للجيش الأميركي كينث ماكينزي قد أبدى في فبراير الماضي إعجابه بتمكن طالبان من القضاء على تنظيم داعش الذي نشط في شرق البلاد بعدما قدمت القوات الأميركية “دعماً محدوداً”.

لا تنهار أفغانستان أمام تقدم قوات طالبان” بسبب قوة الحركة وبأس مقاتليها فقط. سيكون للأمر حيثيات تتعلق بشعبية الحركة المتمردة ضد الوجود الأجنبي منذ عقدين والموقف العام من حكومة كابل وتورطها في لعبة المصالح والفساد. ومع ذلك فكل ذلك لا يفسّر سقوط البلد في يد طالبان، وفي الأغلب دون معارك. وما هو الأكثر ترجيحا أن هذا الانهيار يرجع إلى انعدام أي إرادة دولية في الغرب كما في الشرق بمقاومة اللحظة الطالبانية، ذلك أن قرارا استراتيجيا غربيا أدى إلى رعاية مقاومة “المجاهدين” للاحتلال السوفياتي لافغانستان في ثمانينات القرن الماضي وقرارا غربيا أدى إلى سقوط نظام طالبان عام 2001، فيما يغيب أي قرار للوقوف في وجه طالبان. يفهم “أمراء الحرب” هذا التحوّل فيستكينون لمجاراة هذه الرياح.

تَعِدُ حركة طالبان بأنها تغيرت وتعلمت واستفادت من تجاربها. تطلق خطابا تصالحيا مطمْئِنا إلى الداخل الأفغاني يهدف إلى منح الأمان لخصومها. وتطلق خطاب ودّ وتعاون وسلم إلى كل الدول المحيطة المعنية بمصير أفغانستان ومستقبلها. وسواء كان في سلوك الحركة مناورة مؤقتة وظرفية أو تحوّل حقيقي نحو منطق الدولة وليس “الإمارة”، غير أن الثابت أن “طالبان” لا تملك مشروعا إسلامويا أمميا، وغير مهتمة بالوصل مع هياكل الإرهاب وجماعات الجهاد، ولا يبدو أنها تحتاج إلى ذلك لتوطيد حكمها. أعلنت واشنطن أن العالم لن يعترف بحكومة تقوم في أفغانستان بالقوة. تدرك “طالبان” ذلك وتعرف أن فسيفساء البلد يتطلب حكومة شاملة جامعة.

على أن الغرب الذي يتخلى عن غزوته المكلفة في أفغانستان، سيبتلع بسهولة أوجاع خيبته، وسيضجّرنا بنصوص التبرير والتفسير، وسيتمتع بسادية لئيمة بمراقبة تداعيات قرار “تسليم” البلد لحركة طالبان. ولئن فشل الغرب في استيلاد أفغانستان تلتحق بركب الحداثة، فإن الدول التي لطالما نظرت بعين العداء للوجود الأميركي في أفغانستان وتوافقت في ما بينها ضده، ستجد نفسها مرتبكة متفرّقة متناقضة المصالح حول بلد استكانوا لحاله خلال عقدين، وهم يحاولون هذه الأيام إيجاد تموضع آمن في مواجهة العبث والفوضى وعدم اليقين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى