أميركا العهد الرابع.. إلى أين؟

إميل أمين

ما الذي يميّز الولايات المتّحدة الأميركيّة؟

المؤكَّد القدرة على التجديد والتغيير، لكن في إطار من المعايير والمحدّدات التي أرسى دعائمَها الآباء المؤسّسون، منذ أن كتبوا وثيقة الاستقلال.

عبر 250 عاما بالتحديد، بدأت أميركا مسيرة من الاستقلال ففي عام 1775 اندلعت حرب التحرير، حيث قاد جورج واشنطن الأميركيين المتطوعين لمواجهة الإنجليز وبدعم من الجيش الفرنسي الذي قاده الجنرال لافايت.

كانت هذه هي الطريق المؤدية إلى إعلان الاستقلال في 4 يوليو 1776، من قبل ممثلي الولايات المتحدة الأميركية خلال مؤتمر فيلادلفيا الثالث، وبمقتضى معاهدة باريس سنة 1783، تمَّ الإعلان رسميًّا عن استقلال الولايات المتحدة من قبل إنكلترا، وبذلك كتبت أميركا صفحتها الأولى في مسيرة ستقودها لاحقًا من الجمهورية إلى الإمبراطورية والعهدة على البروفيسور جورج فريدمان رجل استخبارات الظلِّ.

هل تُكتَب اليوم صفحة جديدة من مراحل تطور عهود أميركا؟

عند البروفيسور الأميركي، روبرت ماكنالي، المستشار المشهور في شؤون الطاقة لعدد من الرؤساء الأميركيين، أن العهد الرابع من التاريخ الأميركيّ، والذي يكتب تقريبًا مرّة كلَّ ثمانين عامًا، قد حان أوانُه.

أمَّا عن العهود بين الأول والرابع، فيمكن القطع بأنه بعد الثورة واستتباب قيام الجمهورية، تعرَّضتْ البلاد إلى انتكاسة خطيرة عام 1861، أي مع الحرب الأهليّة، وربما لو لم يعرف التاريخ الأميركي رجلاً بوزن إبراهام لنكولن، لما عبرت البلاد الأزمة متحدة، ولما خرجت الفيدرالية مرة جديدة قوية فتيّة، وربما كان مصير أميركا في أحسن الأحوال هو الكونفيدراليّة.

العهد الثالث من العهود الأميركية الحرجة والحسَّاسة هو زمن الكساد الأعظم الذي ضرب البلاد في ثلاثينات القرن الماضي، وأعقبتْه الحرب العالمية الثانية، والتي كانت الطريق الوحيد لخروج الجمهورية الأميركية من أزمتها العميقة، وقد كان دوران عجلة المصانع العسكريّة، مدخلاً لعهدٍ جديد.

أدَّتْ تلك الأزمات الثلاث الحاسمة السابقة إلى حلِّ النزاعات الوطنيّة الأساسيّة من خلال فَرْض خيارات ثنائيّة بين الفصائل الإيديولوجيّة المتعارضة الوطنيّون مقابل الموالين والمناهضين للعبوديّة والاتّحاديين مقابل الانفصاليّين، والأمميّين مقابل الانعزاليين.

خلال العقود التي سبقتْ كلَّ أزمة كبرى، حاول الأميركيون التوفيق بين الخيارَيْن، فقَدَّموا تنازلات لتأخير التوصل إلى حلّ وسط بين أفكارٍ متعارضة، لكن في النهاية، وكما قال أبراهام لنكولن: “اُجبرت الأمة على أن تصبح شيئًا واحدًا أو آخر”.

تبدو أميركا اليوم على عتبات خيارات مهمّة للغاية، فهناك صراع عميق في الداخل بين الليبراليّين اليساريّين، والقوميّين الشعبويّين من جهةٍ، وبين دعاة الانعزالية والتمترس وراء محيطين من ناحية، وبين الانطلاق إلى العالم الواسع والفسيح ومحاولة الحفاظ على الإرث الكبير الذي اقتنصته واشنطن بعد سقوط الاتحاد السوفيتي في تسعينات القرن الماضي.

على أنّ المهدّد الأكثر خوفًا في هذا العهد الرابع إنما يتمحور حول الدَّيْن القومي، والذي يبلغ اليوم قرابة 36 تريليون دولار، والذي يعني أنَّ كلَّ طفل أميركيّ يولَد، سيكون مَدِينًا بعشرات الآلاف من الدولارات للدائنين الخارجيّين.

هل من علاقة بين المقدّرات الماليّة للإمبراطورية الأميركية والمرحلة الرابعة من عهدها؟

باختصارٍ غير مُخِلٍّ، تبدأ الإمبراطوريات حين تتعاظم المقدرات المالية لأيّ دولة، ما يجعلها تنطلق خارج حدودها الإقليمية، ومن هناك تمتدّ استثماراتُها حول العالم.

في هذه الأثناء وبشكل تلقائيٍّ، تبدأ القوة العسكرية تنمو وبصورة مُطَّردة، لكي تحافظ على حضورها عبر قارات الأرض.

غير أنه وخلال بضعة عقود، يحدث ما يطلق عليه “أكلاف فرط الامتداد الإمبراطوريّ”، بمعنى أن الإنفاق على القواعد العسكرية، وتأمين الحلفاء، ونفقات الأحلاف العسكرية، تضحى عبئًا تنوء به الدولة، ومن هنا تبدأ مرحلة الانسحاب إلى الداخل، تخفيفًا للإنفاق.

هل هذا ما يحاول الرئيس ترمب جاهدًا فعله، وقد استعان بالفعل بالفتى المعجزة إيلون ماسك ليقود ما يعرف بمكتب ترشيد الإنفاق الوطني أوDOGE الساعي إلى توفير تريليوني دولار من الموازنة الأميركية الفيدرالية، ولأجل هذا الهدف يتمّ إغلاق وكالات أميركية لعبت أدوارًا عزَّزتْ ورَسَّختْ من المقدَّرات الإمبراطورية لأميركا، ناهيك عن مؤسسات إعلامية لطالما لعبتْ دورًا متقدّمًا ورائدًا في دعم الحضور الرأسماليّ في زمن المواجهة مع الاشتراكيّة، بل وقادت دول أوروبا الشرقية للانتصار على كافّة محاولات القمع السوفيتيّ؟

اليوم وبعد ثمانين عامًا من الحرب العالمية الثانية، والعهدة على ماكنالي، تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حاجة قريبًا جدًّا إلى حلِّ نزاع وطنيٍّ جوهريّ آخر، ألا وهو حجم الحكومة.

لعقود طوال تمتَّعَ الأميركيون بمزايا اجتماعية متنامية وسخيَّة ومدعومة، وضرائب مخفضة، أي ما يشبه دولة رفاهيّة اقتصاديَّة بتكاليف زهيدة.

غير أنَّ هذا الوضع غالبًا قد حانت لحظة غروب شمسه، في ظلِّ ديون الخزانة العامّة البالغة 36 تريليون دولار، والتي يُستشهد بها كثيرًا.

هذه الديون تُقلِّلُ بشكلٍ كبير من تقديرات الحسابات الماليّة، فعلى مدار الثلاثين عامًا القادمة، سيبلغ عجز الضمان الاجتماعيّ والرعاية الصحّيّة 124 تريليون دولار. هذه الالتزامات ليست افتراضيَّة، فهي مضمنة، وستؤدي إلى تضَخُّم الدَّيْن القادم هيكليًّا وتلقائيًّا.

لم يكن ماكنالي وحده من وضع يده على الجرح الأميركي النازف، فقد سبقه رجل المال والأعمال الشهير، “راي داليو” صاحب أكبر صندوق استثمارات في البلاد، “بريدجووتر”، والذي أشار مؤخرًّا إلى أن هناك ما هو أسوأ من مجرد الخوف من الكساد الاقتصاديّ الذي يمكن لتعريفات ترمب الجمركية أن تتسَبَّبَ فيه.

قصد داليو، أن ارتدادات قرارات ترمب، يمكن أن تنعكس بشكلٍ سيئٍ جدًّا على الاقتصاد الداخلي الأميركي، وهذا غالبًا ما حدث بالفعل. وعليه فإنّ الأقدار تكاد تعيد سيرة ومسيرة الفترة الزمنية الممتدّة من 1930 وحتى 1945، أي الوصول إلى حربٍ عالميَّة ثالثة قد لا تُبْقِي ولا تَذَر.

لعقود طويلة، استطاعت الولايات المتحدة زيادة ديونها بسهولة، ويعود ذلك جزئيًّا إلى كون الدولار الأميركيّ عملة الاحتياطيّ الفيدراليّ، ومع ذلك تشير تعليقات السوق وإجراءات كبار المستثمرين في أسواق الدخل الثابت إلى أن عهد الاقتراض السهل الذي انتهجتْه واشنطن قد شارف على الانتهاء، وتشمل المؤشرات التحذيريّة ارتفاع عائدات سندات الخزانة الأميركية حتى بعد خفض الاحتياطي الفيدرالي لأسعار الفائدة قصيرة الأجل في سبتمبر الماضي، وتحولات في تخصيصات المستثمرين بعيدًا عن الدَّيْن الأميركيّ.

هل وقعتْ واشنطن في فَخِّ الدَّيْن العامّ؟

من المُرجَّح أن تبدأ الأزمة في سوق السندات، حيث سيستجيب المقرضون لتضَخُّم العجز بالمطالبة بعوائد أعلى على سندات الخزانة الأميركِيّة لتعويض مخاطر التضخم المتزايد أو التخَلُّف التامّ عن السداد.

تبدو كلمة التخَلُّف عن السداد كارثيّة، لا لواشنطن فحسب بل للاقتصاد العالميّ برُمَّته، وبخاصة أن قدرة واشنطن على سداد ديونها ترتبط ارتباطًا جذريًّا بفكرة صمود الدولار كعملة مهيمنة في الأسواق العالمِيَّة.

هل من خلاصة؟

لا مَفَرَّ من أن يتم حل مشكلة الديون المتراكمة على الولايات المُتَّحدة والتي نشأت عن عدم قدرتها على التوفيق بين المزايا الاجتماعيّة السخِيّة والضرائب المنخفضة من خلال أزمة وليس من خلال تسوية.



مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى