الانتخابات الرئاسية في تونس تشعل صراع الأجنحة داخل النهضة

مختار الدبابي

باتت استراتيجية التخفي التي ينتهجها رئيس حركة النهضة التونسية على مفترق طريق، ليس فقط من طبقة سياسية تلتقي أغلبها في تحميل التوافق مسؤولية الأزمة السياسية التي تعيشها البلاد، ولكن من داخل النهضة نفسها التي يتضح جليا أن جزءا كبيرا من قياداتها يعارض توافقا لا يعني سوى تذويب هوية الحركة بشكل يساعدها على استرضاء مؤقت لدوائر النفوذ الداعمة لأي سلطة حاكمة والمتحكمة في نجاح أو فشل الحكومات منذ 2011.

المتابع للجدل داخل حركة النهضة بشأن المرشح الذي ستقدمه مؤسساتها الرسمية للانتخابات الرئاسية يكتشف أن التيار الأكبر يضغط لترشيح قيادي من النهضة نفسها إما رئيسها الغنوشي وإما أمينها العام التاريخي عبدالفتاح مورو، أو عبداللطيف المكي الذي يرشح لخلافة الغنوشي في المؤتمر القادم.

لكن التيار البراغماتي الذي يتزعمه الغنوشي، والذي تراجعت قبضته على التنظيم، بفعل تراكم الخلافات، لا يزال يدافع عن ترشيح شخصية من خارج الحركة يكون بمثابة المظلة في خمس سنوات جديدة في استعادة لتجربة التحالف مع الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي التي نجحت في حماية النهضة من مخلفات الفرز السياسي على قاعدة الهوية، وهو فرز سيتعمق بشكل أكبر خلال الحملات الانتخابية الرئاسية والبرلمانية.

تيار معارض للغنوشي

إذا كانت الاعتبارات الأخلاقية قد نجحت في تجنيب الحركة الانقسامات الحادة بعد المؤتمر العاشر، فإن الوضع اختلف الآن، فالغنوشي بات مجرد رئيس للحركة فيما كان في السابق يحاط بهالة من القداسة يستمدها من مفهوم “الأمير” الذي تجب طاعته خاصة في مرحلة المواجهة مع السلطة ما قبل 1987 أو ما بعدها.

وتستطيع الآن أن تقرأ مواقف وتصريحات وتدوينات لقيادات من الصف الأول ينتقدون الغنوشي رأسا، ويصفون تجاوزات القيادة التنفيذية للحركة بالدكتاتورية والاستبداد. كما بات الغاضبون يربطون أي تعيينات في مواقع متقدمة سواء داخل التنظيم، أو في سياق الدولة (وفق آليات تقاسم السلطة داخل التحالف الحاكم) بالمحسوبية، وهناك اتهامات صريحة للقيادة بأنها باتت تحيط نفسها بشبكة من العائلات المتصاهرة في مشهد يستنسخ اتهاماتها للرئيس السباق زين العابدين بن علي ومحيطه، وأن السلطة تعيد إنتاج ذاتها بأدوات “إسلامية” هذه المرة.

وبات التيار المعارض للغنوشي يمتلك رموزا وقيادات وإن كانت غير متماهية في الأفكار والرؤى، مثل عبداللطيف المكي وعبدالحميد الجلاصي ولطفي زيتون ومحسن السوداني، لكن يجمع تحدي سلطة “الأمير”، وهو أمر أخذ منحاه الأقصى كردة فعل على تشكيل القوائم للانتخابات البرلمانية، حيث انقلب الغنوشي على نتائج انتخابات محلية وضعت ممثلي التيار الراديكالي في مواقع متقدمة.

ويعتقد هذا التيار أن الحركة لم تعد في حاجة إلى التخفي تحت أي جلباب، فلم يعد هناك سبسي قادر على تحشيد الملايين لمواجهتها وبناء “جبهة إنقاذ” جديدة، ويحذر من أن سياسة الانصهار في “المنظومة القديمة” جعلت الحركة تخسر الكثير من أنصارها لفائدة مجموعات غاضبة وأحزاب قريبة من التنظيم أو في قطيعة مع المنظومة القديمة. ويقول هؤلاء إن الهرولة لاسترضاء دوائر النفوذ قد دفعت إلى انسحابات نوعية مثل القيادي السابق رياض الشعيبي الذي كون حزبا أطلق عليه اسم البناء الوطني. كما سمح لوجوه مؤثرة في روابط حماية الثورة المحظورة، والتي كانت تمثل حزاما داعما للنهضة، بتشكيل “تحالف الكرامة” الذي سيخوض الانتخابات التشريعية في أغلب المناطق.

كما رشح “تحالف الكرامة” محاميا كان من المنافحين الراديكاليين عن مواقف النهضة، وهو سيف الدين مخلوف، ويرفع شعارات “ثورية” وخطابا حماسيا سيحرج الحركة وسط جمهورها والمتعاطفين معها.

ومن المنطقي أن يكون الجمهور المستهدف هو الخزان الانتخابي للنهضة، وخاصة الغاضبين على نتائج التوافق وتذويب هوية الحركة وتحويلها من حركة دينية راديكالية في مواجهة السلطة إلى مجموعة من البراغماتيين الذين تخلوا عن كل الثوابت لتحقيق اختراق محدود جعل النهضة تتحمل من رصيدها نتائج الفشل الحكومي.

يشار إلى أن جمهور النهضة، الذي تراجع إلى الحدود الدنيا في الانتخابات المحلية 2018، بحث لنفسه عن ولاءات حزبية جديدة، فبعضه التف حول “تحالف الكرامة”، وهو تحالف شعارات وبلا قيادات مؤثرة، والبعض الآخر التحق بالتيار الديمقراطي الذي يقوده محمد عبو بحثا عن العمق الاجتماعي للثورة الذي ضيعته البراغماتية، وشق ثالث توزع على مجموعات منشقة بدورها عن حزب الرئيس الأسبق محمد المنصف المرزوقي، وهناك من انكفأ على نفسه، وخاصة من القيادات التاريخية التي تشعر أن قطار المناورات قد فاتها.

وفي مقابل الفريق الذي يتحمس للقطع مع استراتيجية التخفي والخداع ويستعجل السيطرة على المؤسسات ويتبنى “الأخونة العلنية”، فإن الفريق الآخر الذي يقوده الغنوشي ومن ورائه المكتب التنفيذي لا يزال يدافع عن فكرة البقاء في الظل والاحتماء بالتوافق مع شخصيات تلقى قبولا في الداخل والخارج.

ويعرف الغنوشي أكثر من غيره المزاج الداخلي، كما المزاجين الإقليمي والدولي، تجاه وجود الإسلاميين في السلطة، ويضع أمام عينيه السيناريو المصري في 2013 والسيناريو السوداني، وهو الأعنف والأبلغ دلالة بالنسبة إلى الإسلاميين، فرغم السيطرة على السلطة لمدة 30 عاما في إخوان السودان بوجهيهم المدني والعسكري سقطوا سقوطا مدويا ويجري استئصال نفوذهم من الجذور.

وتشترك تجربة الرئيس السوداني المعزول عمر البشير ومعه زعيم إخوان السودان حسن الترابي مع تجربة الإسلاميين في تونس في كونها قامت على المناورة بين الشريعة والحكم المدني، وبين السلطة المدنية والعسكرية، ونجحت في “أخونة الدولة” لكنها كانت أخونة مفروضة وبمثابة قشرة خارجية سرعان ما نزعها المجتمع السوداني بعنف من حجم عنفها.

مناورات المعارك الانتخابية

لا يختلف التيار الراديكالي والتيار البراغماتي في الهدف، لكنهما يختلفان في الوسيلة والتوقيت، وفيما يرى الفريق الأول أن الطبخة استوت، وأن الإمساك بالسلطة ضرورة خاصة أن الحركة هي الحزب الأكبر على الأرض وفي البرلمان، يعتقد الفريق الثاني أن الأمر ليس في القدرة على الفوز بالانتخابات أو قيادة البرلمان أو الحكومة، وأن لا شيء تغير منذ 2011 إلى الآن في ما يتعلق بالدوائر الرافضة لصعود الإسلاميين إلى سدة الحكم.

ورغم التقارب في التصويت الذي تم داخل مجلس الشورى بشأن مرشح الرئاسة من داخل الحركة أم من خارجها، فإن مؤشرات كثيرة تقول إن الغنوشي سيفرض موقفه على الجميع، أي اختيار شخص من خارج النهضة لدعمه في نهاية المطاف، وهناك سيناريو يبدو الأقرب إلى المنطق وهو ترك الحرية للأنصار للتصويت في الدور الأول مقابل أن تدعم أحد الفائزين في الدور الثاني على أن يحقق شروطها.

وإذا ما نجح عبداللطيف المكي وجماعته في دفع الغنوشي إلى القبول بعبدالفتاح مورو مرشحا في الدور الأول ممثلا للحركة، فإنه يكون قد خسر أولى معاركه بشكل يؤذن ببداية ارتخاء قبضته على تنظيم لم يعد يحظى فيه بالقداسة القديمة بعد أن نزلت به الديمقراطية إلى الأرض.

وتبدو حجج الآخرين أقوى من حجته، فهم يعتقدون أن الانتخابات الرئاسية حملة مبكرة للتشريعية، وأن الحزب الذي لا يرشح أحدا سيخسر فرصة أن يستنفر أنصاره ويجمع من حوله الناس. كما أن الفرز الانتخابي سيبدأ مع الرئاسية، ومن الصعب أن تغيره حملة التشريعية لأن الناس قد حسمت أمر اصطفافها أو مقاطعتها.

ويقول خصوم الغنوشي إن خيار ترشيح رئيس الحكومة يوسف الشاهد أو وزير الدفاع عبدالكريم الزبيدي للرئاسية سيعني أن الحركة تقويه وتقوي حزبه وتضعف حظوظها في التشريعية وتشتت أنصارها خاصة إذا كان الحليف لا يحوز على ثقتهم.

وأيا كانت نتيجة الفرز الداخلي، فإن الانتخابات الرئاسية، وقبلها القوائم البرلمانية قد فتحت أبواب الصدام الفكري والسياسي، وليس فقط الشخصي، بين تيارين رئيسيين في الحركة ذات

الخلفية الإخوانية التي حرصت لسنوات على إظهار نفسها بمنأى عن الخلافات وصراع الأجنحة. وكانت أبلغ إشارة هي انسحاب المكي من اجتماع مجلس الشورى مهددا بعقد مؤتمر صحافي لفضح ما يجري وراء الأبواب المغلقة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى