البكاء على أطلال النظام الإقليمي العربي

محمد أبو الفضل

تعرض النظام الإقليمي العربي منذ ولادته لعمليات اغتيال مادي ومعنوي متعددة، بعضها جاء من داخل دوله والآخر من خارجه، بما أدى إلى موته إكلينيكيا منذ سنوات طويلة، لكن لا أحد استطاع أن يمد يده لإجراء العمليات اللازمة ليخرج من غرفة العناية الفائقة وإعادته إلى الحياة، ولا أحد جرؤ على نزع أنبوب الأوكسجين ليفارقها.

أخذت حملات البكاء على أطلال النظام الإقليمي العربي تضج على مواقع التواصل الاجتماعي بالغمز واللمز، من بعض المخلصين والأوفياء للأفكار القومية أو ممن استفادوا من المتاجرة والسمسرة السياسية، رافضة لما يدور من تحركات عربية في مصر والإمارات والأردن، ووصلت إلى عقد اجتماع لوزراء خارجية عدد من الدول العربية مع وزيري خارجية الولايات المتحدة وإسرائيل.

بدأت تلوح في الأفق بجدية هذه المرة ملامح نظام جديد في المنطقة يضع إسرائيل داخله، وهي الدولة التي ظل النظام العربي القديم يقوم على أساس العداء لها، واستمد جانبا من فاعليته السياسية والأمنية من هذه الزاوية.

يوحي ظهور تحالف يضم إسرائيل بين جنباته إلى هدم مباشر لما تبقى من جدران مائلة في النظام العربي التي تهدم الكثير منها منذ أن صمت الكثير من الدول العربية على انتهاكات إسرائيل وسمح قادتها بحدوث تآكل في العديد من الدول العربية وزاد الاقتتال الداخلي فيها واتسعت ضراوة الخلافات والحروب العربية – العربية.

يصعب توجيه اللوم لأحد، لأن الكل في الهم سواء، بدرجات متفاوتة طبعا، فقد أدت الأخطاء السياسية والعسكرية القاتلة على مدار عقود إلى تراكم عقد كثيرة قادت إلى نعي ضمني للنظام الإقليمي منذ سنوات وتجاوز العديد من أطره، وبقيت جامعة الدول العربية مظلة سياسية تعقد تحتها اجتماعات القمة التي تحولت في الآونة الأخيرة إلى عمل مضن وثقيل على أصحابه والدولة المضيفة.

يكفي الإمعان في حالة جامعة الدول العربية وما وصلت إليه هياكلها من تراجع لاستيعاب دروس العقود الماضية، ولو جرى التفكير بإمعان ومسؤولية كان يمكن أن تصبح مبررا لضخ الدماء في شرايينها بدلا من تسبب البعض عمدا في قطعها.

قاد الكثير من التطورات المتسارعة السنوات الماضية إلى توقعات حول البحث عن نسق إقليمي جديد والتفكير في محاور تستوعب عددا من الدول التي تتوافق في التوجهات والمصالح المشتركة، بعضها أشار إلى إمكانية دخول دول غير عربية، وبعضها صمم على أن يكون أي محور يضم الدول العربية التي تنسجم تطلعاتها معا.

في كل مرة يتم فيها الحديث عن تهاوي النظام الإقليمي العربي وسيادة نبوءات أو أمنيات بشأن ولادة نظام جديد تتعثر من دون أن تموت النبوءة أو الأمنية، لأن الحد الأدنى من التفاهمات العربية كان لا يزال موجودا وهناك من حرصوا عليه، ولو من قبيل الإحراج والكسوف السياسي والخوف من إعلان الوفاة مباشرة.

يبدو البعض من الدول العربية على استعداد لتقبل خطوة جديدة بطريقة إيجاد البديل بعيدا عن أي حسابات أيديولوجية وقومية خالصة، ما يعني استخراج شهادة وفاة رسمية للنظام القديم، فالدول التي تنخرط في حوارات مع إسرائيل لتشكيل تحالف أو البحث عن تعاون وتنسيق يستهدف إيران تكفي حتى هذه اللحظة للشروع في دفن النظام الإقليمي العربي، فلن يكون هناك نظامان متقابلان في منطقة واحدة، أحدهما كبير ومريض ومترهل والآخر محدود وقوي وطموح.

تبدو الأدبيات التي ينطلق منها كلاهما متعارضة وفرصة التنسيق بينهما معدومة، وحتى المقاومة للتعاون باتت غير مجدية لأن الدول الساعية لتشكيل منظومة جديدة هي التي كانت تمد المنظومة القديمة بما يمكنها من الحصول على وسائل التنفس الصناعي حتى استطاعت البقاء  حتى اللحظة الراهنة التي حان أوان مواجهتها.

ليس من مهام هذا المقال التوقف عند من أخطأ ومن أصاب، ومن خان أو تآمر، ومن يبحث عن توسيع نطاق التطبيع مع إسرائيل ومن يريد فرملته، فاجترار الماضي بكل آلامه لن يدخل تعديلا على مكونات الحاضر شيئا أو يسمح بتغيير المستقبل.

هناك قطار انطلق من محطته ويمضي بسرعة فائقة في العالم، وتمثل منطقة الشرق الأوسط جزءا حيويا منه ولن تكون منفصلة عما يدور من تطورات، ما يشير إلى وجود الكثير من الدول المستعدة للركوب بسهولة الآن أو حتى القفز داخل هذا القطار لاحقا.

فاتت رفاهية الاختيار والرفض والممانعة، ففي ظل نظام عربي تنعدم هذه الصفات التي رفعها الآباء والأجداد في أوقات سابقة، بصرف النظر عن حسن أو سوء نواياهم، فقد كانوا أسرى فكرة تدغدغ المشاعر، وتجد من يتجاوبون معها ويتعلقون بما تحمله من أحلام، بينما الآن جرى فقدان من يقومون بدور الشحن العاطفي والشحذ الإنساني.

أفضى الوصول إلى هذه الحالة إلى إمعان بعض الدول النظر إلى مصالحها بلا اعتبارات قومية، حيث فقد العرب فضيلة إحياء نظامهم وعلى وشك فقدان رفاهية الحفاظ عليه في غرفة العناية الفائقة، فما يدور في المنطقة من أحداث يستوجب السعي نحو إيجاد بديل مناسب والتطلع إلى المستقبل وعدم الالتفات إلى الوراء.

راح زمن الرومانسية السياسية وما حملته من شعارات براقة وأصبحنا أمام واقع ينتصر فيه التفكير القطري على القومي، وعلى مستوى الصوت المرتفع الذي لازم البعض لم نعد نسمع من يريد الحفاظ على النظام العربي وكأن أنصاره أعدموا أو تواروا خلف مآسيهم الشخصية بعد أن تهدمت دول ونهشتها الحروب الأهلية.

انتهت ظاهرة المتباكين على النظام القديم وتوقفت حناجرهم عن توجيه الاتهامات أو حتى اللوم لمن يريدون الخروج عنه، وما تبقى من ميراث سياسي تركه هؤلاء لا يسعف أحفادهم لتكرار فصولهم النبيلة والرديئة، وهو ما يمهد الطريق أمام ولادة نظام بهوية جديدة سوف تكون الهوية العربية جزءا غالبا فيه، لكن لن تستطيع الهيمنة على مفاصله الرئيسية، لأن القواعد التي يقوم عليها تتجاوز الأفكار الماضيوية.

لعبت الأحداث السلبية التي مرت بها المنطقة دورا مهما في زيادة المآسي العربية، ويتحمل قادتها وشعوبها جانبا أصيلا من المسؤولية عنها، فلم ينتبه أحد إلى ما تحمله من مخاطر، فقد أدت الصراعات على الساحة الفلسطينية مثلا إلى إصابة جزء معتبر في الهيكل العربي بالسكتة الدماغية، وتحولت قضيتهم من المركز إلى الهامش ومن أداة لتوحيد العرب إلى وسيلة لزيادة تشتيتهم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى