البيئة الاستراتيجية لتجدد النزاع حول تايوان

طارق الحريري

في أعقاب اشتعال الحرب الروسية الأوكرانية تخلت الولايات المتحدة عن تبنيها لأسلوب الغموض الاستراتيجي تجاه الملف التايوانى وظهر هذا جليا بعد تصريحات الرئيس الأميركي جو بايدن في مؤتمر صحفي خلال زيارته لليابان، معلنا استعداد بلاده للتدخل العسكري لحماية تايوان حال تعرضها لهجوم من الصين.

تسببت المتغيرات التي شهدتها الساحة الدولية والتي انعكست على الاقتصاد العالمي بعد تفشى جائحة كورونا، وتفاقم الأوضاع نتيجة الحرب في أوكرانيا في عودة النزاع التاريخي بين الصين وتايوان إلى السطح إثر ادعاءات تجدد استحضار المخاوف من الأرشيف باحتمال أن تقوم بكين باستعادة الجزيرة من خلال عمل عسكري استغلالا لهذه الأوضاع.

قبل الخوض في تداعيات الأحداث حول إنعاش هذه الأزمة تجدر الإشارة إلى البعد التاريخي الذي تجلى في انفصال هذه الجزيرة التي كانت جزء لا يتجزأ من الدولة الصينية حتى عام 1949، لكن مع وصول الشيوعيون إلى السلطة وتأسيس جمهورية الصين الشعبية ونتيجة هزيمة القوميين أضطر “شيانغ كاي شيك” إلى الهروب من البر الصيني وإعادة تأسيس حكومته في تايوان.

تستدعى قراءة الأوضاع الحالية بين تايبيه وبكين دراسة البعدين العسكري والاقتصادي لكليهما لكي يمكن ربط التطورات الحالية بمدى تناسب القدرات بين الطرفين مما يساعد فى فهم طبيعة ودور التوازنات الدولية، حيث تميل الكفة لصالح جمهورية الصين الشعبية التي لم تتخل منذ أن كانت دولة عالم ثالث عن مبدأ استعادة تايوان بإلحاح أن يتم ذلك سلميا.

طبقا لمؤشر “Global Firepower” في 2022 تصنف الصين عسكريا باعتبارها القوة الثالثة عالميا بينما تحتل تايوان المركز الحادي والعشرين، وتكشف المقارنة من حيث عدد القوات العاملة عن فرق هائل لصالح الصين التي يقدر تعداد الأفراد فيها تحت السلاح بقرابة ثلاثة ملايين جندي، بينما يبلغ تعداد الأفراد في القوات المسلحة العاملة التايوانية 290 ألف جندي. وتبلغ ميزانية الدفاع لدى بكين 178 مليار دولار مقابل 13 مليار لتايوان.

من حيث الأسلحة التقليدية والبيانات الواردة هنا هي على سبيل المثال وليست لكل مكونات التسليح.. تمتلك القوات الجوية الصينية 3260 طائرة متنوعة المهام منها 371 طائرة هجومية يقابلها 739 لتايوان لا توجد بينها طائرة هجومية واحدة وفى مجال الأسلحة الأرضية تمتلك بكين 2250 منظومة صواريخ مقابل 115 لتايبيه ويتكون الأسطول البحري الصيني من 777 قطعة مقابل 117 لتايوان في حين تمتلك الصين حاملتي طائرات لا تمتلك تايوان أي منها.

اقتصاديا تأتى الصين في المرتبة الثانية عالميا بعد الولايات المتحدة بناتج محلى أجمالي (GDP) يبلغ 19,911 تريليون دولار بينما يبلغ مثيله لدى تايوان 841 مليار دولار وتبلغ مساحة الصين 9,596,961كم مقابل 35,980 كم لتايوان وتظهر بعض ملامح القوة الاقتصادية للصين من مسافة الطرق البرية التي تبلغ أطوالها 3,860,800 بينما أطوالها في تايوان 41,475 وفى مقابل 86,000 كم أطوال سكك حديدية في الصين يقتصر الأمر في تايوان على1580كم فقط.

لا وجه للمقارنة إذن بين الصين وتايوان من كافة الأوجه في حسابات القوة ويستطيع البر الصيني ابتلاع هذه الجزيرة بالقوة العسكرية دون صعوبة، بل وفى وقت قصير لكن التنين الصيني لا يغريه فارق القوة المخيف.. على العكس يتصف بهدوء وتأنى فيما يخص استعادة هذه الجزيرة رغم كل التجاذبات والتسخين السياسي والإعلامي من القوى الدولية الكبرى المنافسة لبكين.

لا تشكل عودة جزيرة تايوان إلى الصين خللا استراتيجيا فادحا عسكريا أو اقتصاديا لتوازنات القوى العالمية بين الدول الكبرى لأن المشكلة الأخطر مع بكين هي بحر الصين الجنوبي المسمى بالبحر المسلح إذ توجد في مياهه وعلى سواحله قرابة ربع الترسانة العسكرية في العالم، وينظر إليه باعتباره من أسخن البقاع المائية في الكوكب إن لم يكن أسخنها.

استعادة جزيرة تايوان عسكريا يشعل المنطقة مما يعيق تمدد نفوذ الصين في أرخبيل جزر “بارسيل وسبر انكى” المتنازع عليها في بحر الصين الجنوبي الذي تشير بعض التقديرات إلى مرور 35% من تجاره العالم به علما أن الصين تقوم ببناء جزر صناعية في المنطقة تنشأ فيها مطارات وموانئ وقواعد عسكرية في هذا البحر.

يبدو أن الصين تتبع سياسة اقتصادية بعيدة المدى قابلة لأن تمكنها من هضم تايوان دون عمل عسكري مباشر بسبب تعميق روابط التصنيع والتجارة. لدرجة قيام شركات تايوانية باستثمار ما يزيد عن 60 مليار دولار داخل البر الصيني حيث يستقر مليون تايواني يديرون أنشطتهم الصناعية والتجارية.

لا تعنى المتغيرات الأخيرة احتداد الصراع فعليا حول تايوان بعد زيارة الرئيس الأميركى لليابان وكوريا الجنوبية سعيا لبناء تحالف شراكة اقتصادية من 13 دولة آسيوية تحيط بالصين مع ملاحظة تعمد انكشاف الغموض الاستراتيجى من الغرب تجاه الملف التايوانى واستثارة النزاعات القائمة فى بحر الصين الجنوبى.

واقعيا لا تعكس المفردات السياسية الشرسة حاليا بين واشنطن وبكين أى احتمالات لتصادم سياسى عنيف بسبب تايوان وهذا ما تعمده تصريح لوزير الدفاع الصينى تحديدا بإن حكومته تسعى إلى “إعادة التوحيد السلمي” مع تايوان لكنها تحتفظ “بخيارات أخرى” .. الأبعاد الحقيقية لما يدور من تلاسن محسوب ومكايدة هو فى صميمه صراع مستتر بين قوة عظمى تنفرد باحتلال مقعد النفوذ والهيمنة فى مواجهة تنين يدب بمثابرة يسمع دبيب أقدامه فى الطريق إلى القمة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى