الحزب التركي الشعبي السري في مصر

سعد القرش

عنوان المقال يكاد يكون “الحزب التركي الشعبي في العالمين العربي والإسلامي”، وسأقتصر على مشهد مصري أراه ضحية لنجاح قوى سحرية، محمولة على جناحي الفقه التقليدي والدراما التلفزيونية مع ما بينهما من تعارض يستعصي على “الفقهاء”، في تقديم صورة ذهنية لتركيا باعتبارها النموذج العصري للدولة الإسلامية، دولة الخلافة الجديدة، وقد أصبحت بديلا جذابا تجاوز نموذج ماليزيا مهاتير محمد. وهذا البديل التركي يستعيد الخلافة التي سقطت عام 1924، والإسلام حجة عليها وعلى سلاطينها، كما كتب الشيخ محمد الخضر حسين قائلا “لكن المرض لا يبرر الإعدام.. والفساد لا يستدعي اليأس من الإصلاح”.

بالفقه والفن انطلقت العربة التركية، عابرة محطة تلبي أشواقا نفسية شعبوية، لتصل إلى غايتها في فتوى الدعم المادي لاقتصاد رجب طيب أردوغان بوسم “الحملة الشعبية لدعم تركيا”، الجمعة 16 أكتوبر 2020. استثمرت تركيا الدراما التلفزيونية بجاذبيتها، وسخّرت مشروع الإخوان المسلمين ممثلا في كيان يسمى “الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين” أسسه وترأسه يوسف القرضاوي. وما يبدأ بالقرضاوي ينتهي بصغار أحدهم عبدالله رشدي الشهير بمجانص، له جمهور ساذج جاهز بالتصفيق، حين يغرد مادحا السلطان وجيشه “رحم الله سادتي بني عثمان سلاطين الدولة العثمانية العلية التي دوّخ سلاطينها الإفرنج والصهاينة”، ولن يذكّره متابعوه بأن تركيا تتوسل الالتحاق بالإفرنج، وأنها سارعت إلى الاعتراف بإسرائيل عام 1949، بعد عشرة أشهر من جرح النكبة. ولا تزال أكبر حليف اقتصادي وعسكري للعدو في المنطقة.

صوت القرضاوي في تبشيره عام 2014 بفوز أردوغان؛ “لأن الله معه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير”، يردد صداه شيخ مصري في تركيا اسمه د.محمد الصغير، يتجول بالزي الأزهري في استوديوهات فضائيات الإخوان؛ ويفتي في كل شيء مصري، ولم يتأخر عن المشاركة في وسم “الحملة الشعبية لدعم تركيا”، وأطلق تغريدة هي لدى أتباعه في مقام الفتوى الشرعية “العالم الإسلامي منقسم إلى فسطاطين الأول تمثله تركيا التي تقف مع تطلعات الشعوب وتحاول نصرة المطلومين، ومعسكر دول الشر رعاة الثورة المضادة الذين جمعتهم خيمة التطبيع وباتوا تحت لحاف إسرائيل واتحدت كلمتهم على حرب الأتراك واقتصادهم لذا كان لزاما علينا أن ندعم الحملة الشعبية لدعم تركيا”.

رؤية العالم كفسطاطين أدت إلى تقسيم “دار الإسلام” إلى فسطاطين. الأول فسطاط تركيا، والثاني فسطاط “خيمة التطبيع”. ويفوت “الشيخ” وأمثاله تأمّل علاقات دولة تنفق عليه وتموله وتمده بأسباب السباب، فيتجاهل الحلف التركي التاريخي مع العدو، وأن تركيا تبخل بإطلاق رصاصة واحدة من أجل فلسطين في الحروب المتوالية، بل تواصل توطيد علاقاتها العسكرية بالعدو بأشكال تشمل التسليح والتدريب والمناورات المشتركة.

فكرة الفسطاطين لن تنتهي من خطاب “وعاظ” صغار يرددون كلاما له مردوده السياسي والاقتصادي، إلا بمراجعة ظروف تاريخية كتب فيها ذلك الفقه. فليس في قوانين المساواة وحقوق المواطنة ما يدعو السيد سابق مؤلف مجلدات “فقه السنة”، وهو كتاب لا يخلو منه بيت تقريبا، إلى تخصيص باب عنوانه “الاستعانة بالفجرة والكفرة على الغزو”، ويأخذ الأمر بجدية شديدة تناسب الفترة التالية لفتح مكة مباشرة، فيجيز الاستعانة بهؤلاء “على قتال الكفرة”، وينتهي إلى إجازة الإمام الشافعي الاستعانة بهم للضرورة، ومنحهم مكافأة، وألا يشتركوا “في سهام المسلمين من الغنيمة”.

أردوغان يحصد في مصر ثمار دراما شائقة وفقه متوارث تعاد طباعته من دون تحقيق. وفي تغييب أصوات الأحرار في مصر، ومنع الرأي المختلف، المختلف فقط وليس المعارض، واحتلال السفهاء وفاقدي الضمير ومحدودي الكفاءة للمنابر الإعلامية، توجد مضخات إعلامية احترافية وأخرى شعبوية، ترضي الأذواق المختلفة، وتخاطب المثقف والأمي، وتعدد جهات الإطلاق، عبر مؤسسات حكومية أميرية وتمويلات تركية وعابرة للدول. مواجهة مضحكة، وغير عادلة، بين شتامين مصريين فقراء الموهبة، ونحو عشر فضائيات قاصفة تتابع، على الهواء مباشرة، ما يجري على الأرض: الشكوى من الغلاء، تعثّر مشروع العاصمة الجديدة، إزالة واجهة المتحف المصري الكبير، قتل جنود في سيناء، هدم بناية أقيمت على أرض الدولة، إزالة منزل بناه مواطن مسكين على أرض زراعية على الورق وهي محاطة بالبيوت، إعراض الناس عن الانتخابات، سحل بلطجية لفتاة في الشارع، انفعال رئيس الدولة على أحدهم في اجتماع عام.

فضائيات تضع مصر تحت المجهر، وتزوّد الكاميرات المسلطة على مواطن الخلل، الراصدة لتفاصيل الكوارث، بأنياب تنهش وتعرّي.

وحين يحتل جيش أردوغان شمالي سوريا، ويرسل جنودا ومرتزقة إلى ليبيا، فلا يقتصر تأييده على صحافيين وشيوخ ومذيعين قابضين على المزامير بالأيدي وعلى الأموال في الحسابات البنكية، وإنما يتعداه إلى مصريين ذوي ثقافة شفاهية، حفظة قواعد النحو من المدرسين البلداء وصحافيين وبسطاء. الفرح باقتراب جيش “الخليفة” من الحدود المصرية يستعيد صيحة مصريين ضاقوا بالاحتلال البريطاني، وحلموا بأن يستبدلوا به احتلالا ألمانيا، فهتفوا “إلى الأمام يا روميل”. ولا تدهشني سعادة صامتة، تستبشر بفتوحات «الخليفة» إن وجدت الأمان الكافي؛ لأن المقدمات أدت إلى هذه النتيجة، فالخطاب الديني يتباكى على الخلافة، وإذا أعلن القرضاوي أن أردوغان مؤهل لهذا الدور، فهو يبشر بمن يعيد الخلافة، ويطوي الصفحة العلمانية. وليس أمام الناس في بلد تصل فيه الأمية إلى 30 في المئة إلا اعتبار أردوغان خليفة. هؤلاء أحفاد أحمد عرابي قائد أول ثورة دستورية في مصر والعالم العربي، وقد فشلت الثورة لأسباب منها تخلي الناس عن عرابي، بعد فتوى السلطان بعصيانه.

سقطت الخلافة وبقي الحلم باستعادتها، وفي عام 1925 انبرى الشيخ الخضر حسين لانتقاد الشيخ علي عبدالرازق، فنشر كتاب “نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم”، وفيه تناقض بين قوله إن الخلافة “رابطة سياسية تجعل شعوبا مختلفي العناصر والقومية يولون وجوههم شطرها بعاطفة من أنفسهم واختيار”، (ولا أظن بلدا قاسى شرور الاستعمار العثماني كان له ترف ذلك الاختيار)، وقوله إن انتخاب الخليفة “كان لأجل مسمى وهو مدة إقامته قاعدة الشورى على وجهها وبذله الجهد في حراسة حقوق الأمة”، وإن علماء الإسلام استدلوا على وجوب “الخلافة/الإمامة/الدولة الإسلامية” (ولم يذكر اسم خليفة كان للشعب حرية اختياره أو عزله، فضلا عن قتله وهذا الحق الأخير في القتل كان خاصا بالخلفاء وينفذونه بفتوى شرعية).

ليت كلام الخضر حسين ظل في سياقه المتزامن مع الحزن على زوال الخلافة، ولكن مجلة “الأزهر” أهدت قراءها، مع عدد يناير 2014، كتاب “ضلالة فصل الدين عن السياسة”، يقول فيه “فصل الدين عن السياسة هدم لمعظم حقائق الدين ولا يقدم عليه المسلمون إلا بعد أن يكونوا غير مسلمين”، وكأني بهذه الجملة أسمع صوت سيد قطب. والكتاب تحقيق محمد عمارة الذي تبنى في مقدمته آراء المؤلف، “فالإسلام يوجب الدولة الإسلامية… الخليفة الإسلامي نائب عن الأمة ووكيل عنها”.

مع الفقه والفن، صبت روافد أخرى في مجرى الحلم العثماني، أكتفي بكتاب “الدين والدولة في تركيا: صراع الإسلام والعلمانية”، (الهيئة المصرية العامة للكتاب، مشروع القراءة للجميع، مكتبة الأسرة 2009)، ويزف مؤلفه كمال السعيد حبيب البشرى بأن “الإسلام المنتصر” سيبني الجمهورية الثالثة على أيدي أردوغان وعبدالله غول، لاستعادة “الدولة التركية من أيدي العلمانيين والقوميين الذين يستلهمون تقاليد أتاتورك”، الطاغية الشبيه بستالين، “وهاهو الإسلام وأبناؤه يستعيدون مكانتهم”. وينتهي الكتاب (372 صفحة) بسبع كلمات “تركيا ستكون هي النموذج لانتصار كلمة الإسلام”، وتليها آية “إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون”.

بهذا الزرع، كيف يدهشنا ترحيب الحزب الشعبي السري بقدوم “الخليفة”؟

 

 

الأوبزرفر العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى