الدبيبة متمسك بالحكم.. لكن باشاغا لن يستسلم

الحبيب الأسود

لا يزال رئيس الحكومة الليبية المنتهية ولايتها عبدالحميد الدبيبة يصرّ على التمسك بمقاليد الحكم، وهو اليوم يتمترس في مكتبه برئاسة مجلس الوزراء في طريق السكة بطرابلس وراء بنادق الميليشيات الموالية له، والتي تتحرك وفق أوامره سواء كوزير دفاع أو كرجل أعمال قادر على إرضاء المستعدين دائما لتمكينه من الخدمات التي يحتاج إليها.

عندما وصلت أرتال بعض ميليشيات مصراتة، واجتمعت مع بعض ميليشيات طرابلس، لتستعرض قوتها في شوارع العاصمة، كان ذلك من باب الترهيب المباشر لكل من يمكن أن يصرح بموقف مناوئ للحكومة المنتهية ولايتها، كما حدث مع المدون والناشط الطيب الشريري الذي اغتيل قبل ثلاثة أيام في مصراتة برصاص القوة المشتركة، فقط لأنه انتقد الدبيبة على مواقع التواصل الاجتماعي ولم يخضع للتهديدات التي وصلته في مناسبات عدة.

ميليشيا “النواصي” التي تنطلق من خلفية ثأر قديم مع فتحي باشاغا بسبب اتهامه إياها بالتورط في الفساد والعبث بمقدرات الدولة عندما كان وزيرا للداخلية، نشرت عناصرها حول مقر رئاسة الحكومة وحول بعض المصالح الخاصة بالدبيبة، وتمركز عدد من مسلحيها في مطار معيتيقة حيث يرفعون بنادقهم لمنع الطائرة التي قد يكون رئيس الحكومة الجديدة على متنها، من الهبوط بأرضية العاصمة. هناك جماعات مسلحة عدة تقف بقوة مع الدبيبة وخاصة منها تلك المتطرفة التي تتكون سواء من إرهابيين فارين من ضربات الجيش في مدن الشرق، أو من مسلحين يتسترون بهوية الثوار في التصدي لأي محاولة لملاحقتهم من أجل تورطهم في جرائم القتل والاختطاف والاغتصاب ونهب المال العام وتنظيم شبكات التهريب والاتجار بالبشر، بل إن بعضهم وردت أسماؤهم في تقارير الأمم المتحدة وتحريات مكتب النائب العام.

لا يدّخر الدبيبة أي جهد أو مقترح أو فكرة أو مغامرة للبقاء في كرسيه في حالة غير مسبوقة، وهو يعتبر القضية بالنسبة إليه قضية حياة أو موت، ولديه فرق عمل تتحرك على أكثر من صعيد لمساعدته على ذلك، من بينها ميليشيات مسلحة ومنصات إعلامية وجيوش إلكترونية ومراكز نفوذ اقتصادي ومالي، وشبكات للعلاقات العامة مستعدة لصرف مبالغ طائلة في الداخل والخارج لكل من يساعد على استبعاد الحكومة الجديدة والحؤول دون تمكينها من مباشرة عملها في طرابلس.

بعد أن كان رئيسا لحكومة الوحدة الوطنية تحول الدبيبة إلى رئيس حكومته الخاصة بأبعادها الأسرية والجهوية والمناطقية. وضمن المصلحة الخاصة لفريق من الليبيين دون غيره، وهو ما جعله يندفع نحو مواجهة مفتوحة مع مجلس النواب ومجلس الدولة وعلى قيادة الجيش والنظام السابق وكل من يدعوه إلى الاستجابة إلى نداء العقل، واحترام قوانين اللعبة السياسية، والاعتراف بأنه أصبح يتحرك من خارج الشرعية الدستورية والقانونية، وأنه رجل مغتصب للسلطة بقوة السلاح والأمر الواقع، وهو اليوم أقرب إلى أن يكون وزير دفاع قرر الانقلاب على قوانين الدولة بالاعتماد على دعم من أطراف مستفيدة من ذلك، فالدبيبة يجد دعما من حكومات غربية يشهد تاريخها على أنها كانت دائما مشجعة على الفساد من خارج أراضيها وفي غير أوطانها، وسبق أن حدث ذلك في علاقة مع دول عدة كالعراق وأفغانستان وأوروبا الشرقية ودول أفريقية وغيرها، وهي اليوم تبحث عن مبررات لعرقلة حكومة باشاغا، ولمساعدة الحكومة المنتهية ولايتها على البقاء في سدة السلطة التنفيذية بزعم التمسك بجدول خارطة الطريق المنبثقة عن ملتقى الحوار السياسي وصولا إلى تنظيم انتخابات تشريعية قبل نهاية يونيو القادم.

لقد أثبتت التطورات الأخيرة أن الفاعلين الأساسيين في منظومة المجتمع الدولي لا يريدون لليبيا أن تتجاوز أزمتها أو أن تحقق المصالحة الوطنية، إلا بقدر مصالحهم من ذلك

هناك من تلك الحكومات من يراهن على استعداد الدبيبة الدائم للتبعية ولعقد الصفقات المثيرة للجدل ولتنفيذ الأوامر الموجهة إليه بحذافيرها، وهناك من يؤكد علنا تمسكه بمحافظ مصرف ليبيا المركزي الصديق الكبير وهو الصديق المقرّب للدبيبة، وهناك من يرى في وصول باشاغا إلى مباشرة الحكم انتصارا لإرادة مجلس النواب وقيادة الجيش، وهما طرفان يبدوان أقلّ استعدادا للتبعية للعواصم الغربية. ربما لذلك كانت روسيا أول حكومة أجنبية رحبت بالحكومة الجديدة، وهو ما قابله الدبيبة بحملة شنتها وزيرة خارجيتها ضد موسكو مع إبداء الولاء الكامل لواشنطن التي تحاول الإبقاء على حكومته، من خلال تحرك جناحيها في المشهد الليبي وهما السفير المبعوث الخاص ريتشارد نورلاند، والمستشارة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة ستيفاني ويليامز، التي تبدو أقرب إلى تنفيذ رؤية واشنطن من تجسيد مواقف المنظمة الأممية.

قبل عام من الآن، كان الدبيبة يخوض معركته من أجل نيل ثقة مجلس النواب في جلسة سرت، وقد تعهد من قاعة واغادوغو بأنه سيكون بداية من الرابع والعشرين من ديسمبر 2021 رئيسا لحكومة تصريف أعمال، وفي الثاني والعشرين من سبتمبر قرر البرلمان سحب الثقة منه، واعتبر حكومته فاقدة للشرعية من تاريخ الثالث والعشرين من ديسمبر، لكنه استطاع أن يمارس مناوراته تنفيذا لخطة مدروسة يعدها خبراء مختصون، ويشرف عليها فريق متخصص من منطلق العمل على البقاء في السلطة إلى ما لا نهاية، وتحويل ليبيا إلى غنيمة لفائدة أفراد معدودين بغطاء الشعبوية المقيتة التي يبدو أنها تحولت إلى أحد أسس ادعاء الديمقراطية لدى الأنظمة الليبرالية الفاسدة.

استطاع الدبيبة التلاعب بالمسار الانتخابي لتعطيله واستغلاله لاحقا في تحقيق رغبته في البقاء في الحكم، وعندما قرر مجلس النواب تكليف باشاغا بتشكيل حكومة جديدة ثم منحه الثقة وفسح له المجال لأداء اليمين الدستورية أمامه، تحركت أطراف عدة لعرقلة ذلك، فمجلس الدولة تراجع عن التزامه مع البرلمان، وويليامز خرجت لتطلق مبادرة مدعومة من قبل واشنطن وعواصم أوروبية تصب في مصلحة الحكومة المنتهية شرعيتها، بينما لن يتنازل مجلس النواب عن سيادة قراره، ولا باشاغا عن شرعية حكومته، وهناك جانب كبير من الليبيين يرفض أن يستسلم لوضع بلاده في موقع الغنيمة لصالح حكومة الأمر الواقع.

يعتقد باشاغا أن عليه أن يكون في مستوى ثقة البرلمان ومن ورائه الشعب الليبي، وأن ينفذ مشروعه الوطني الذي وعد به، وهو مشروع يتأسس على فكرة توحيد المؤسسات وتجاوز الانقسامات وطي صفحة الماضي واستعادة السيادة الوطنية بتكريس الوحدة الوطنية واقعا يستجيب لخيارات جميع الفرقاء، ويحقق تطلعات أجيال من الليبيين، بالإضافة إلى دمج مدينته مصراتة في محيطها الاجتماعي والاقتصادي والثقافي بديل الإبقاء عليها في عزلة لا تخدم مصالح غير أقلية نراها اليوم تتحرك بقوة لنصرة الدبيبة.

لقد أثبتت التطورات الأخيرة أن الفاعلين الأساسيين في منظومة المجتمع الدولي لا يريدون لليبيا أن تتجاوز أزمتها أو أن تحقق المصالحة الوطنية، إلا بقدر مصالحهم من ذلك، وهم لا يريدون لليبيين أن يتوصلوا إلى اتفاق وطني من داخلهم ودون تدخل خارجي، وهو ما تبين في حالة تشكيل حكومة باشاغا، ويبدو أن ويليامز تسير في هذا الاتجاه، وقد اختارت تأبيد حكومة الدبيبة، رغم أن ذلك ينذر بعاقبتين وخيمتين: الأولى، أن الدبيبة يخطط للبقاء في الحكم سنوات أخرى وليس أشهرا فقط. والثانية، أن باشاغا لن يتنازل عن مهمته، وإنما سيتولاها من طرابلس أو من أي مدينة أخرى بما يهدد بعودة شبح الانقسام، فقط لأن هناك عابثين بمصير البلاد وهناك من يساعدونهم في هذا العبث.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى