السلطة الفلسطينية إذا قالت وإذا سكتت

علي الصراف

كم كان المرء ليتمنى أن يكون هناك بين رجال السلطة الفلسطينية من يجرؤن على مواجهة أنفسهم بالحقيقة التي كشف عنها بنيامين نتنياهو، ليقروا بحقيقة أنهم عار على الشعب الفلسطيني، وأنهم خدعة ليس من الأخلاق أن تستمر، وأنهم إما أن يدخلوا على الرئيس محمود عباس ويطردوه، أو أن يقدموا استقالة جماعية من المستنقع الذي دفعهم عباس إليه.

نتنياهو قال خلال جلسة مغلقة للجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست، “إنه يجب العمل على اجتثاث فكرة إقامة الدولة الفلسطينية، وقطع الطريق على تطلعات الفلسطينيين لإقامة دولة مستقلة لهم”. ولكنه أكد في المقابل أن “من مصلحة إسرائيل بقاء السلطة الفلسطينية، وهي على استعداد لدعمها ماليا لكي تواصل عملها”.

هذا وحده يكفي للكشف عن أن سلطة الرئيس عباس تؤدي دورا وظيفيا تخريبيا ليس لجهة الدفاع عن الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني فحسب، بل إنها تؤدي دورا تخريبيا لجهة الدفاع عن مشروع إقامة دولة فلسطينية أيضا. أي المشروع الذي تبرر نفسها به. كما تبرر خياراتها السلمية المتخاذلة به أيضا.

نتنياهو يعرف أين تكمن مصلحة إسرائيل. وبقاء الرئيس عباس رأس سلطته، جزء من مصلحة إسرائيل. هذه النتيجة لا تكشف شيئا جديدا عن طبيعة هذا الكائن. ولكنها تلفت الأنظار إلى الذين يقفون من حوله. فهم إما أن يكونوا جزءا من تلك المصلحة، فيكفوا عن الكلام البذيء الذي يرددونه في الدفاع عن حقوق شعبهم، ليصوّروا أنفسهم كمناضلين من أجل قضية وطنية مقدسة، وإما أن تكون لديهم ذرة ضمير حي تدفعهم إلى الإقرار بأنهم يؤدون دورا وظيفيا مختلا، وأن الاستقالة الجماعية هي دليل التبرؤ الوحيد من عالم الفشل الذي غطس فيه عباس إلى أذنيه، وجرهم إليه.

أعمال تدمير “فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة” جارية منذ ثلاثين عاما على الأقل. أي منذ أن تولى نتنياهو سلطته لأول مرة. لا تعرف ما هي الأوهام التي ظل يسوقها المسؤولون الفلسطينيون لأنفسهم عندما تجاهلوا ما ظل يجري بين أيديهم من أعمال توسيع المستوطنات، وقطع الأواصر الجغرافية ليس بين الضفة الغربية والقدس وغزة فحسب، بل وبين مدن الضفة الغربية نفسها أيضا.

يكفي أن تنظر إلى خارطة المستوطنات هناك لتكتشف أنها حولت الضفة الغربية إلى منخل، ينخر فكرة الدولة المستقلة، وينخر “حل الدولتين” أمام سمع “السلطة الفلسطينية” وبصرها. وهذه السلطة لم تكتف بأن ظلت تردد شعارات الوهم والخداع نفسها، ولكنها تعمدت ألا تتدبر حلولا وخيارات أخرى. كما أنها تعمدت أن تمنع كل فرصة لإعادة النظر في إستراتيجية السلام. تعمدت، أكثر من ذلك، أن تتواطأ مع نزعات التسلط التي فرضها عباس لكي يبقى رئيسا، رغما عن أنف كل ما ظل يحققه من فشل.

الإسرائيليون يخشون الآن أن يرحل. ولا يريدون لسلطته أن تنهار. ويقول نتنياهو إنه مستعد لدعمها بالمال لكي تواصل عملها.

ما هو عملها، ذاك الذي ترى إسرائيل أن استمراره من مصلحتها.

يتطلب الأمر قطرة حياء واحدة على الجبين، لكي يعرف كلُّ ذي عار أنه عار على نفسه؛ عار على شعبه، وعار على قضيته، ما لم يخرج ليتبرأ من مستنقع هذه السلطة، ومن رئيسها.

في الرد على نتنياهو، كان من المضحك واللافت ومن ذي جليل المعنى، أن اختار المتحدث باسم الرئيس عباس جزءا، لينفحه بالكلام المكرور، ويصمت عن الجزء الآخر. رد على “اجتثاث الفكرة”، ولم يرد على “أن بقاء السلطة الفلسطينية من مصلحة إسرائيل”.

الناطق باسم الرئاسة الفلسطينية نبيل أبوردينة قال “إن تصريحات نتنياهو تُظهر للعالم حقيقة النوايا الإسرائيلية الرافضة للشرعية الدولية والقانون الدولي”. وسكت عن الباقي، لأنه يعرف العار، ويراه.

ولا شيء جديدا في حقيقة أن نتنياهو يرفض الشرعية الدولية والقانون الدولي. إسرائيل كلها ترفض الشرعية الدولية والقانون الدولي.

ولئن وجد نتنياهو نفسه يجرؤ على دعوة التخلي عن إقامة دولة فلسطينية، وتاليا عن “حل الدولتين”، فلأنه بدد الأساس الجغرافي والسكاني الذي يمكنها أن تقوم عليه. بدد الترابط الجغرافي فيما بين مدنها، وذلك بمقدار ما بدد الرئيس عباس وحدة الشعب الفلسطيني، وبدد قدرته على إقامة دولة تحظى بالشرعية أمام شعبها على الأقل.

هكذا، ليتضح كيف أن العملين متكاملان في الحقيقة، وكيف أنهما شريكان في تدمير التطلع الفلسطيني من أجل الاستقلال في دولة. وكيف أن الفشل الفلسطيني هو أداة إسرائيل الأولى الذي تبرر به وجودها.

هذا هو العمل الحقيقي لسلطة الرئيس عباس.

كيان قائم على مبدأ الاحتلال والتوسع الاستيطاني والقوة المسلحة، قام في الأساس، على انتهاك الشرعية والقانون منذ لحظة وجوده الأولى. وهو قاعدة عسكرية على أرض الغير. وحالما تتغير موازين القوى، أو تنتفي الحاجة إلى وجوده كمعسكر دبابات وطائرات، فإن الحاجة إلى بقائه كدولة سوف تتغير.

في المقابل، فإن فكرة إقامة دولة فلسطينية لا يمكن اجتثاثها على أي حال، لأنها هي عنوان الأرض الوحيد. هناك شعب يبلغ تعداده نحو سبعة ملايين فلسطيني يعيشون على أرضهم، وينافسهم عليها سبعة ملايين مستوطن تركوا مواطنهم الأصلية ليعيشوا في معسكر دبابات.

لا حاجة حتى إلى سجلاّت التاريخ. الفلسطيني على أرضه هو التاريخ. لونه من لون الأرض، ووجوده من وجودها، وحتى طعامه من طعامها.

الدولة، بالمعنى المؤسسي شيء، والوجود شيء آخر. وهو ما ينطبق على إسرائيل. فدولتها التي لا تعرف حتى الآن ما هي حدودها، تقول بنفسها إنها كيان مزيف ومؤقت. أما وجودها الملتبس فإنه سرعان ما يتضح في الجوازات المزدوجة للإسرائيلي الذي يخشى أن يمضي بقية حياته في دبابة.

السؤال الذي يتعين على السلطة الفلسطينية أن تجيب عليه، هو لماذا يعتبر نتنياهو بقاءها من مصلحة إسرائيل. الكلام الصعب إنما يكمن هنا، وهو يستحق جوابا جريئا.

والجواب الجريء ليس قولا تقوله، وإنما حذاء ترفعه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى