العثمانيون وهدم فكرة الحضارة الإسلامية

وليد فكري

 

قبيل البعثة المحمدية كان العالم مشتعلا بالصراعات التي يمكن أن نصفها بـ”العنصرية”، فالبيزنطيون الذين اعتنقوا المذهب المسيحي الأرثذوكسي الرومي (الملكاني) كانوا يضطهدون المصريون المعتنقون للمذهب الأرثذوكسي القبطي (اليعقوبي)، ويطاردون أتباع المذهب النسطوري باعتبار أنهم هراطقة كفرة.

وكانوا يبطشون باليهود إما لسابق ثورتهم على الحكم الروماني أو نتيجة نبوءة تلقاها بعض عرافو الإمبراطور هرقل أن “دولتك سيدمرها شعب مختون”، أو ربما لأن الفُرس كانوا يحتضنون اليهود ويقربونهم.

الفُرس كانوا يضطهدون المسيحيين من المذاهب التي ترضى عنها بيزنطة باعتبار أنهم “عملاء” للدولة البيزنطية العدوة.. بينما كانوا يقربون اليهود ويحافظون على السلام مع المذهب النسطوري.

اليمن كان خارجا لتوه من صراع يمني حبشي مريع تخللته مقاتل دموية بين اليهود المنتمون للأسرة اليمنية الحِميَرية التي اعتنق آخر ملوكها “ذو نواس” اليهودية، والمسيحيين الذين اتهمهم ذو نواس بموالاة الأحباش وغضب لهم الأحباش فاتخذوهم ذريعة لغزو اليمن.

الجزيرة العربية نفسها كانت ممزقة بين حروب وثارات وصدامات القبائل فيما بينها، بل والعشائر داخل القبيلة الواحدة.. بل وثمة صراع أكبر ومنافرات بين العنصرين العربيين القيسي العدناني (أهل وسط الجزيرة وعلى رأسهم قريش) واليمني القطحاني (العرب من الأصول اليمنية) والذي استمر لما بعد الإسلام.

في خضم ذلك المحيط البشري المشتعل بالتعصب الديني والمذهبي والقبلي والعشائري جاءت دعوة الإسلام لتضع الفكرة الأساسية والبذرة الأولى لما عُرِفَ بعد ذلك بـ”الحضارة الإسلامية”.

أبيض وأسود.. عربي وأعجمي:

“إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم”. “إن أباكم واحد.. لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى”.

“من الذاكر فلانة؟ إنظر إلى الناس.. ماذا ترى؟ أبيض وأحمر وأسود.. فإنك لا تفضلهم إلا بالتقوى والدين”.

“أنا سابق العرب.. وبلال سابق الحبشة.. وصهيب سابق الروم”.

بنواة من هذه المباديء المتوارثة من القرآن الكريم أو من سيرة النبي محمد قامت الحضارة الإسلامية على أساس من امتزاج الأعراق والثقافات. بل وبعقد المعاهدة التي جمعت المهاجرون “قريش في الأغلب منهم” والأنصار “الأوس والخزرج” ويهود المدينة/يثرب ثم بعدها بسنوات المعاهدة مع مسيحيو نجران، اتسعت فكرة “الحضارة” الناشئة لتشمل الاديان المختلفة.

والقاريء في التاريخ الإسلامي كله يذهله التنوع في مكونه البشري، من عرب وفُرس وتُرك وروم وأقباط وأمازيغ وأفارقة سُمر وآسيويين هنود وصينيين وأكراد وجراكسة، وأوروبيين أندلسيين وغيرهم.. وكذلك من التنوع الديني بين مسلمون على مختلف المذاهب ومسيحيون من طوائف متنوعة ويهود وزرادشتيين وصابئة وأديان متنوعة.

لهذا أقول-بحق-أن الحضارة الإسلامية هي الأعظم والأكثر ثراءً وتنوعًا وعطاءً وفضلًا على الحضارة الإنسانية في فترة التاريخ الوسيط (التاريخ الوسيط هو-اكاديميًا-الفترة بين سقوط روما في منتصف القرن الخامس الميلادي وسقوط بيزنطة في منتصف القرن الخامس عشر الميلادي) لأنها الحضارة الوحيدة التي استطاعت أن تخلق هذا المزيج العبقري من الأعراق والشعوب والثقافات في دولة عالمية.

بل ومن أوجه عبقرية هذه الحضارة أن “رموزها” التاريخية غير مرتبطة بعرق أو بلد أو أصل او حتى بدين بعينه.. فستجد في الفقه فارسي كأبو حنيفة، وفي الفلسفة يهودي مثل موسى بن ميمون وفي الطب مسيحي سوري مثل بختيشوع، وفي الفتوحات امازيغي مثل طارق بن زياد وفي تصوف مصري نوبي كذو النون المصري وفي السياسة والحرب كردي مثل صلاح الدين الأيوبي وفي التاريخ رجل من أصل رومي مملوكي كابن تغري بردي.. وهكذا..  بل أن حتى وصفها ب”الإسلامية” لا يعني بالضرورة أن يكون كل بناتها وبناة محتواها الحضاري مسلمون بالضرورة.

جذب الشعوب وطردها:

تلك الفكرة القائمة على التعارف والتعايش والامتزاج كانت عامل جذب لفئات بشرية عدة أن ترحب بالمسلمين في فتوحاتهم من أقصى الأرض لأقصاها.. فمصر لم يكن العرب ليجدوا مستقرًا فيها لولا ترحيب الأقباط بمن استشعروا أنه سيحترم خصوصيتهم الدينية والثقافية، وفي الأندلس رحب اليهود بالمسلمون أملًا في التخلص من الاضطهاد القوطي، ورحب بهم العامة الذين رأوا فيهم منقذين من الاضطهاد الطبقي من الفئة القوطية الحاكمة، وفي الشام والعراق رأى الناس في المسلم المحرر من الظلم الفارسي والفساد البيزنطي.. لهذا كانت التمردات في هذه المناطق ضد الدولة الإسلامية بمثابة حالات خاصة وليست “حالة عامة”.

قارن كل ما سبق بالتجربة العثمانية.. تجد النقيض.. فهؤلاء الذين ادعوا الحفاظ على الموروث الحضاري الإسلامي هدموا بمعول عنصريتهم الفكرة منذ قدّموا العنصر التركي وهمشوا سائر العناصر الأخرى وعلى رأسها العنصر العربي.

هؤلاء الذين قالوا أنهم جائوا ليوسعوا رقعة الإسلام لم تشهد دولة في التاريخ الإسلامي ثورات لشعوب ضدها كما شهدوا.. فقد ثارت ضدهم اليونان ورومانيا وصربيا والبوسنة والجبل الأسود وبلغاريا وغيرها.. وكأنما كانت شعوب تلك المناطق تنتظر الفرصة لتتحرر من الغول العثماني الجاثم على صدرها المخرب لبلادها.

بلى.. فبينما تزدحم كتب الأوروبيين بكتابات تبدي الاحترام للعرب والمسلمين القدامى وثقافتهم وموروثاتهم الحضارية وسماحتهم ورقي أخلاقهم الذي كان خير سفير لحضارة الإسلام، تجد في نفس الكتب الذم والقدح بحق العثمانيين وذكر مثالبهم من جهل وفساد ودموية وغطرسة ونزوع للتخريب وموروثهم الاخلاقي المسييء للإسلام والمسلمين، ونظرة في كتب مؤرخين مثل جوستاف لوبون أو د.زيجريد هونكه أو هيو كينيدي وغيرهم تثبت ذلك.

والعثمانيون-القدامى والجدد-وغلمانهم يبررون ثورات تلك الشعوب بتبريرات مائعة رخوة ك”تآمر الغرب” و”أعداء الإسلام” و”طمع الاستعمار”، ولكن ولا كلمة واحدة عن اخطاء العثمانيين وتعاليهم وعجرفتهم وتسلطهم وباقي نقائصهم التي-كما يقول التعبير العامي المصري-“طفّشت” الشعوب منهم وجعلتهم نموذجًا منفرًا للمسلم، وغرست في أوروبا بذرة الإسلاموفوبيا المعاصرة!.

ختاما:

يقول البعض أن الحضارة الإسلامية قد انهارت بسقوط دولة آل عثمان، ولكن حقيقة الأمر أن آل عثمان هم الذين هدموا الحضارة الإسلامية وهذا بقضاءهم على فلسفتها القائمة على امتزاج الثقافات والمساواة عرقيًا ودينيًا وإثنيًا بين البشر وخلق حالة من تكافوء الفرص بينهم للترقي والمشاركة في بناء الحضارة.. فجاء العثمانيون ليطيحوا بهذه الفلسفة الراقية التي لم يشهد العالم مثلها منذ فكرة الإسكندر المقدوني بمزج الشعوب والحضارات، ودمروها وسحقوها وتسلطوا بعنصريتهم التركية وجلافتهم الموروثة على هذه الشعوب رافعين شعار “ليس لكم عندنا إلا السيف أو تركعوا تحت سنابك خيولنا” فكانت النتيجة الطبيعية هي حالة التخلف والتدهور والاضمحلال التي أذوت الحضارة الإسلامية ودمرتها.. فكأنما نجح العثمانيون فيما لم ينجح فيه المغول أنفسهم حين غزوا الشرق!.

 

 

 

الأوبزرفر العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى