المفارقة التونسية: تعليق السياسة أفضل طريقة لإنقاذ الديمقراطية

فرانسيس غيلس

صرخت نائبة رئيس مجلس النواب التونسي قائلة “أقسمنا على الدفاع عن الدستور”، فرد عليها جندي شاب “أقسمنا أن ندافع عن الوطن”.

ويلخص هذا الصدام أمام أبواب البرلمان المغلقة مفارقة تونس، حيث أثار قرار الرئيس قيس سعيد بإقالة حكومته وتعليق عمل البرلمان غضب رئيسه الإسلامي ونائبته اللذين سعيا لدخول المبنى الذي تحرسه الآن القوات المسلحة.

ومع ذلك، تدفق عشرات الآلاف من كل الطبقات الاجتماعية إلى شوارع المدن والقرى التونسية، مرددين دعمهم لسعيد. وظل هذا الدعم قائما بعد أكثر من شهر، على الرغم من إدانة ما وصفه العديد من المعلقين الغربيين بانقلاب على الديمقراطية.

وفاجأت التطورات الدبلوماسيين في تونس، فقد قللوا بشكل خطير من أهمية المهارات التكتيكية لأستاذ القانون الصارم والمحافظ اجتماعيا. فلسعيد عدد قليل من المستشارين ولا يتحدث إلا ليُدين بأشد العبارات الفساد الذي يدمر بلده الذي كان مزدهرا في شمال أفريقيا. وكانت تونس أول دولة في الشرق الأوسط تطيح بدكتاتورها قبل عقد من الزمن، مشعلة شرارة الثورات التي اجتاحت العالم العربي.

وعلى الرغم من صدمة المراقبين الغربيين، فاجأ قرار الرئيس قلة في الدولة نفسها. وكانت المؤشرات المالية منذرة لسنوات، وستفلس تونس هذا الخريف إذا فشلت في التفاوض بشأن خطة إنقاذ مع صندوق النقد الدولي. وكانت لعبة القط والفأر مع دائني تونس الأجانب سمة مميزة خلال ولاية رئيس الحكومة المقال، وهي نسخة حديثة من العزف بينما تحترق روما (أو قرطاج في هذه الحالة). واتخذت الديمقراطية شكل السوق، بصفقاتها بين مجموعات الضغط الاقتصادية والسياسية المختلفة، بالإضافة إلى المافيا التي نمت قوتها إلى ما هو أبعد من قوة المؤسسات المنهكة في البلاد.

ويوضح أحد الأمثلة عدم كفاءة حكومة تونس الأخيرة. حيث أودت الأزمة الصحية المتصاعدة بحياة أكثر من 20 ألف تونسي بحلول شهر يوليو. وبينما كان لدى معهد باستور المرموق (تأسس في 1893) وشركات الأدوية الخاصة في تونس القدرة على تصنيع اللقاحات، لم يلق عرض شركة فايزر لتصنيع اللقاحات، والذي قُدّم في الشتاء الماضي، إجابة حينها. ويعتبر مثل هذا السلوك إجراميا بالنسبة إلى العديد من الأطباء.

ومنذ ثورة الياسمين في 2011، وقع رؤساء الوزراء التونسيون المتعاقبون فريسة لما يصفه أحد الاقتصاديين بـ”التفكير الاقتصادي السحري”. وازدادت أعداد موظفي الخدمة المدنية والشركات الحكومية بأكثر من 150 ألف إلى أكثر من 600 ألف في بلد يقل عدد سكانه عن 12 مليون نسمة مع توظيف العديد دون أي مؤهلات، أو حتى دون التزام بالحضور إلى العمل في كثير من الأحيان.

وكانت معظم الأحزاب السياسية وأصحاب المصالح والمافيات طرفا في هذه اللعبة، مما أدى إلى تفريغ ما كان في السابق أحد أفضل الخدمات المدنية العربية. واستهلكت فاتورة الرواتب العامة في تونس حوالي 75 في المئة من عائدات الضرائب في 2020، وهو ما شكّل ارتفاعا من 53 في المئة عن 2010. وكانت النتيجة الحتمية تقليص الاستثمار في البنية التحتية والتعليم والصحة. ومع هجرة الآلاف من الأطباء من البلاد، انزلقت المستشفيات تحت وطأة جائحة لم يكن التعامل معها سليما. ومع ذلك، تلقى ما يقدر بنحو 1.5 مليون شخص جرعتهم الأولى منذ أن أمر سعيد الجيش بالسيطرة على عملية اللقاح.

وداهمت الشرطة في الأسابيع الخمسة الماضية، بناءً على أوامر من الرئيس، مستودعات في جميع أنحاء البلاد، وصادرت كميات هائلة من البضائع غير المصرح بها، بعد تهريب معظمها عبر الموانئ حيث سهّلت واحدة من مجموعات المافيا التي لا تعد ولا تحصى مرورها من هناك. وتأتي العديد من السلع من تركيا، وهي داعم قوي لحزب النهضة الإسلامي ويشتبه كثيرون في أنها من مموليه، منذ أن تحوّل إلى ركيزة برلمانية لكل الحكومات التي شهدتها البلاد منذ 2012.

وتحتاج الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى تقديم حزمة سخية لتونس من خلال التجارة الثنائية وصندوق النقد الدولي. وفشل الطرفان في ذلك في 2011 عندما ألقت سياستهما في ليبيا بمئات الآلاف في البحر المتوسط ​​وعبر أفريقيا.

ويعدّ الإصلاح الدستوري والانتخابي ضروريا ولكنه لن يتم بالإرادة وحدها. كما أن دعم الرئيس مشوب بالتخوف، خشية أن يعتقد هذا الرجل الصارم أخلاقيا أنه منقذ يمكنه إحياء الرخاء بمفرده، حيث يجهل سعيد الأمور الاقتصادية. وليست كراهيته للمال بديلا عن سياسة اقتصادية سليمة وعن تشجيع رجال الأعمال الحقيقيين. ولن تخلق إعادة توزيع غنائم الفساد فرص عمل. وسيتعين على سعيد انتقاء الأشخاص ذوي النزاهة للمساعدة في إعادة بناء مؤسسات الدولة، نظرا لكونه يشتبه بالسياسيين وكبار موظفي الدولة ورجال الأعمال.

وسيكون دور الجيش أساسيا. فهو صغير ومهني وغير نمطي مقارنة بنظرائه العرب. ولم يلعب دورا سياسيا قط، وليست له مصالح تجارية. وتدرّب الولايات المتحدة كبار ضباطه، وقد لعبت دورا رئيسيا في مساعدة تونس على مكافحة الإرهاب. وكان الجيش حاميا للوطن دون رغبة في إدارته.

وغالبا ما ترتبط الديمقراطية بالازدهار. وهذا هو الشعار الثقافي الذي يكرره الغرب. فهل تعدّ الديمقراطية مستدامة إذا سيطر الفقر والفساد وعدم الكفاءة على المجتمع؟ قد لا يعجبنا الجواب. ولهذا، يأمل معظم التونسيين أن يجد سعيّد مخرجا من المأزق. لم تُشيّد روما في يوم واحد، وهذا ما ينطبق على الديمقراطية في قرطاج.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى