بريطانيا.. وشهر الإضرابات الأعظم

بهاء العوام

طوال تاريخ المملكة المتحدة، لم تشهد عددا أكبر من الإضرابات خلال شهر واحد كما حدث في ديسمبر 2022.

كل يوم تقريبا، على مدار الشهر بأكمله، هناك وقفة احتجاجية وتعطيل للعمل في قطاع أو مؤسسة حكومية.

المطلب الوحيد للجميع هو زيادة الأجور بعد أن تآكلت قيمتها مع صعود التضخم لمستويات قياسية.. فوفقا للإحصاءات الرسمية ارتفعت رواتب العمال بنسبة 6% خلال 2022، ولكن التضخم عصف بهذه الزيادة.

والدعم الحكومي للأسر في مواجهة كلفة المعيشة وفواتير الطاقة لا يسمن ولا يغني من جوع.

الحكومة البريطانية تبدو كأنها أُسقِط في يدها.. فقد فشلت حتى الآن في جميع المحادثات، التي خاضتها مع الاتحادات والنقابات لمنع وقوع الإضرابات أو تقليص رقعتها.. وعندما تقطعت السبل برئيس الوزراء، ريشي سوناك، راح يهدد بفرض قوانين جديدة لمكافحة الإضرابات و”حماية الأرواح وسبل العيش في البلاد”.

يقول رئيس الوزراء إنه متفهم لمطالب زيادة الأجور، ولكن الأولوية الآن لخفض التضخم.

وبحسب وزارة الخزانة، يتطلب منح القطاع العام زيادة في الأجور بنسبة 11٪ بما يتماشى مع التضخم، ورفع المعدل الأساسي للضريبة بأكثر من 4.5 نقطة مئوية، أو ضريبة القيمة المضافة بأكثر من 3.5 نقطة مئوية.. فالكلفة الإجمالية لزيادة أجور القطاع العام ستصل إلى نحو 28 مليار جنيه إسترليني.

الإضرابات طالت 6 قطاعات رئيسية في بريطانيا، هي النقل والتعليم والصحة والخدمات المدنية والبريد والطاقة.. وكل واحد منها ينطوي على عشرات الوظائف وآلاف الموظفين.. أما تداعيات الإضرابات فتتجاوز تضييق الحركة اليومية للبريطانيين، لتخلق مشكلات حقيقية للاقتصاد الوطني المثقل بالأعباء أصلا.

الشركات والمصانع والمتاجر كانت تعوّل على أعياد وفعاليات ديسمبر لتعزيز أرباحها.. ولكن معهد الشؤون الاقتصادية أصدر تقريرًا يقدّر فيه خسارة البلاد بنحو 300 مليون جنيه إسترليني يوميًا نتيجة عدم قدرة الناس على العمل أو الإضراب.. كما توقع أن تكون الضربة، التي تعرضت لها الحانات والمطاعم والفنادق هذا الشهر، بخطورة تفشي المتحور أوميكرون من كورونا العام الماضي.

وتوضح تقارير مختصة أن المطاعم والبارات والحانات في لندن اضطرت لإلغاء أنشطة ديسمبر بسبب الإضرابات.. وهو ما قد يكلف قطاع الضيافة نحو 750 مليون جنيه إسترليني.

كما من المتوقع أن يخسر قطاع التجزئة نحو مليار جنيه.. هذا بالإضافة إلى أن إضراب موظفي الحدود نهاية السنة، والذي يؤثر في أكثر من 7000 رحلة قادمة إلى مطاري هيثرو وجاتويك بنحو 1.5 مليون مقعد إجمالا.

في قطاعات مثل الصحة وحرس الحدود، استعانت الحكومة بالجيش ليحل محل المُضربين عن العمل.. ولكن هل يمكن أن تؤدي مثل هذه الحلول المؤقتة إلى معالجة الأزمة مع تهديد النقابات بسلسلة إضرابات تمتد إلى العام الجديد، فيما مؤشرات الاقتصاد العالمي لا تبعث على التفاؤل كثيرا؟

ربما لا يمتلك “سوناك” خطة واضحة لإنهاء الإضرابات.. ولكن أيا كانت الظروف، سيصعب على الحكومة القبول بزيادة كبيرة في الأجور خلال الوقت الراهن.. فذلك سيؤدي إلى ارتفاع التضخم، وضياع كل الجهود والسياسات التي تمارسها الحكومة من أجل احتواء تداعيات ارتفاع أسعار السلع وكلفة المعيشة.

يقول وزير النقل، مارك هاربر، إن رواتب القطاع العام لن تزداد لتواكب التضخم المرتفع.. ولكن الحقيقة هي أن التضخم هو الذي كشف ضعف رواتب هذا القطاع، ودفع بالنقابات إلى المطالبة بزيادتها.. فالهُوة بين كلفة الحياة وهذه الأجور كان يمكن احتواؤها قبل 2021، ولكن الآن أصبح الأمر مستحيلا.

“هاربر” يقول إنه حتى رواتب القطاع الخاص لم تواكب التضخم، ولكن صحيفة “الفايننشال تايمز” تؤكد أنه منذ وصول حزب المحافظين إلى السلطة في 2010، ارتفع متوسط الأجور في القطاع الخاص بـ5.5% وانخفض في القطاع العام بـ5.9% بحلول سبتمبر الماضي.. كما توضح أنه بين 2021 و2022، انخفضت قيمة الأجر في القطاع الخاص بـ1.5%، وفي العام بنسبة 7.7%.

وكشف مكتب الإحصاء الوطني البريطاني أن الفجوة بين نمو أجور القطاعين العام والخاص لا تزال واسعة.. حيث بلغ متوسط نمو أجور القطاع الخاص بين أغسطس وأكتوبر الماضيين 6.9 بالمئة، مقابل 2.7 بالمئة للقطاع العام.. ورغم ذلك يظل كلاهما أقل بكثير من التضخم الذي ينمو بأسرع وتيرة منذ 40 عامًا.

في التعامل مع الإضرابات، ثمة مقارنة ظهرت في وسائل إعلام محلية مؤخرا بين رئيس الحكومة الحالية وأول رئيسة وزراء في تاريخ بريطانيا، مارجريت تاتشر.

ربما تنطوي هذه المقارنة على “إجحاف” بحق “سوناك” نظرا لاختلاف الظروف، وتباين مكانة الزعيمين بين صفوف حزب المحافظين، ولكن ذلك لا يلغي أهمية استدعاء تلك الحقبة من تاريخ البلاد للبحث عن حلول مستدامة مستقبلا.

لقد جاءت مواجهة “تاتشر” للإضرابات في سياق تغيير كامل النظام الاقتصادي للبلاد.. كما أن القطاع الحكومي في ثمانينيات القرن الماضي كان يعاني ترهلا وتُخَمة في عدد العاملين، على عكس ما تعيشه مؤسسات عدة في هذا القطاع حاليا.. إضافة إلى أن التحول الذي فجرته “تاتشر” اعتمد على اليد العاملة المحلية أكثر بكثير مما اعتمد على الأجانب في إدارة الإنتاج وتحريك عجلة الاقتصاد الوطني.

لا تحتاج المملكة المتحدة إلى قوانين تضيّق الخناق على النقابات اليوم كما في عهد “تاتشر”.. فهذه المؤسسات لا تبتز الحكومة، ولا تحاول استغلال التضخم لتحسين أجور العمال.. وإنما هي تقود الإضرابات للتحذير من تأزم الاقتصاد الوطني من جهة، ولإنصاف العمال في إنتاجهم الحقيقي من جهة أخرى.

في ثمانينيات القرن الماضي، نُقل عن المرأة الحديدية ما فحواه أن المرء قد يُضطر لخوض معركة ما أكثر من مرة كي ينتصر.. وواقع الحال اليوم يحتم على “سوناك” تطبيق هذا القول حرفيا.. ولكن ليس ضد مطالب العمال بأجور عادلة، وإنما ضد أسباب التضخم، وعوائق نمو الاقتصاد الوطني الداخلية والخارجية.. حينها فقط يمكن للحكومة أن تثبت للبريطانيين أن الأكثرية البرلمانية المطلقة، التي مُنحت للمحافظين في 2019، لم تكن خطأ، وحال البلاد غدا سيكون أفضل من اليوم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى