بلطجية الدواء في زمن الوباء

وسام حمدي

على طريقة ويليام كيد أحد أشهر قراصنة أوروبا على مر التاريخ، ازدهرت في زمن كورونا بلطجة قراصنة البحار، لكن بطرق وخطط مختلفة عن المعتاد، إنها قرصنة تحميها دول وتستهدف حصرا بواخر تحمّل شحنات أدوية كانت في بادئ الأمر متجهة إلى بلد ما، فحُولت وجهتها لترسو على ضفاف بلد آخر لم يكن مقصدها.

 تواترت تقارير مختلفة المصادر ومن بلدان عدة جنّدت كل طواقمها وأجهزتها لمقاومة وباء كورونا تفيد باختفاء شحنات أدوية كانت متجهة إلى موانئها ومطاراتها قبل أن يتم السطو عليها.

في تونس أعلن وزير التجارة محمد مسيليني، الاثنين أن باخرة محملة بمادة الكحول الطبّي المعدّة لتصنيع المواد المعقمة كانت متجهة إلى تونس، لكنها تعرضت لهجوم في المياه الدولية وسرقت المعدات الطبية وحُوّلت وجهتها لإيطاليا.

كان الحدث سيكون عابرا وشاذا في زمن يتطلب أكثر من أي وقت مضى وحدة العالم وتضامنه للانتصار على فايروس لا يستثني أحدا قويا كان أو ضعيفا، لكن سويعات فقط بعد الإعلان التونسي، خرجت وزارة الدفاع الألمانية لتؤكد بدورها اختفاء شحنة ستة ملايين قناع للتوقي من كوفيد-19 في كينيا كانت في طريقها إلى مطار برلين.

تأكد أيضا تفشي عمليات السطو بالقوة على شحنات مستلزمات مكافحة الوباء، حين أُعلن الاثنين عن أن جمهورية التشيك صادرت شحنة مساعدات مرسلة من الصين إلى إيطاليا، وفق ما قالت سلطات براغ التي حاولت تدارك الأمر.

المفارقة في كل هذه التطورات التي تنذر بميلاد “مافيا” جديدة محمية من الدول التي تصارع لحفظ بقاء شعوبها، أنها تزامنت مصادفة مع إحياء ذكرى ميلاد القرصان الاسكتلندي ويليام كيد -ولد في 23 مارس 1645 وتوفي 23 مايو 1701 – الذي كان يلقّب بـ”الكابتن كيد” عندما كانت البحار والمحيطات مسرحا للحرب بين إسبانيا وإنجلترا وبعض القوى الاستعمارية في أوروبا.

أُدين كيد وأُعدم بعد عودته من رحلة إلى المحيط الهندي كونه كان أحد أكثر لصوص البحر وحشية وتعطشا للدماء في القرن السابع عشر، إلى درجة أنه أصبح أحد أعلام القرصنة في الأدب الغربي وبطل للعديد من القصص الغامضة، التي حسمها بعض المؤرخين مثل السير كورنيليوس ونيل دالتون، وهما اللذان جزما في مؤلفات ووثائق تاريخية كثيرة أن ما تم تناقله عن سمعة القراصنة غير عادل، بتأكيدهما أن الظرف والتاريخ جعلا من عدد كبير من القراصنة يلجأون لاستعراض القوة من أجل البقاء.

مثل هذا الإنصاف للقراصنة قد يشرع لـ”بلطجية” اليوم ارتكاب جرائمهم، فمن الناحية التاريخية من المعلوم أنه في الحروب أو الكوارث عادة ما يكثر “أثرياء الحرب”، بحيث يصبح كل شيء عاديا بما أن الحرب تهدي المستفيدين منها مقدمات وتعلاّت لتبرير سلوكات نفعية، لكن السؤال الملح الآن، ما هو الفرق بين الكابتن كيد وبين قراصنة زمن كورونا؟

لا فرق بين كيد وبين الجهات التي تتعمّد مصادرة أو تحويل وجهات شحنات الأدوية وتغيير مسارها الأصلي، سوى أن سلطات بلدان كثيرة جعلت اليوم بدافع الذعر وعدم القدرة على مجابهة الوباء المشهد زلقا أكثر مما كان ومهيأ لمزيد من الفوضى بعدما انخرطت بعض الحكومات في سلوكات “البلطجة” وباتت أحد أكثر مكوناتها تأثيرا.

يغمض المجتمع الدولي أعينه عن هذه الجرائم الأخيرة ويحاول عدم تهويلها عبر تنسيبها بحكم الظرف الاستثنائي الذي مورست فيه، وهو ما يطرح تساؤلات هامة تخص كيفية معاقبة المارقين عن القانون وخاصة من هي الجهات المكلفة بمعاقبتهم.

تعاطف العالم المحاصر في كل شبر من الأرض بكوفيد-19 مع إيطاليا ومن قبلها مع الصين ومع كل بلد تفشى فيه الفايروس بوتيرة جنونية. تعيش إيطاليا وضعا صحيا وإنسانيا كارثيا جلب اهتمام الجميع خصوصا مع ظهور بوادر غياب التضامن أوروبيا مع روما في هذه المحنة ما جعل دولا كثيرة مثل كوبا تعاضد جهودها لمكافحة كورونا بإرسال طواقم طبية مهمتها الدعم والإسناد قبل حصول الأسوأ.

لكن هل يبرّر كل هذا لجوء مافيا القراصنة سواء كانوا بلطجية أو تابعين لحكومات إلى الاستيلاء على ضرورات حياتية ليست من حقهم، إلى درجة تكاد تنقل عدوى قانون الغاب إلى قانون البحار؟

إن عالم البحار أو حتى الطيران، مضبوط بقوانين ومواثيق دولية تحدد العلاقات بين الدول كما تعاقب من أخطأ. وتنص اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار في كثير من فصولها حول جرائم القرصنة، حيث تعتبر في تعريفها لهذا المفهوم بأن “جريمة القرصنة هي الأفعال التي تقع في مكان ما لا يخضع للاختصاص الإقليمي لأي دولة ويتمثل في أعمال العنف أو السلب بشرط أن يتعلق هذا العمل بهجوم في البحر”.

وتؤكد الاتفاقية في بند آخر على أن القرصنة تكون على سفينة أو طائرة حربية أو عامة أو حكومية تمرّد طاقمها واستولى للسيطرة على أشياء خاصة بدولة أخرى دون موجب حق.

وعلى الرغم من اهتمام المجتمع الدولي بجرائم القرصنة البحرية وتشديد عقوبتها واعتبارها جرائم دولية، فإن هذه الجرائم باتت تشكل تهديداً يضر بمصالح العالم الاقتصادية، نظراً لأن التجارة المنقولة بحراً تمثل 80 في المئة من التجارة العالمية.

على ضوء كل هذه الانزلاقات الخطيرة، تلوح مؤشرات كثيرة ستترجم بالنهاية في عهد كورونا عودة لجوء الإنسان لخوض حرب مع الطبيعة ومع الكوارث في آن واحد وفق تصورات المفكر الإنجليزي توماس هوبز الذي يقر بأن كل فرد هو في صراع مع الآخرين من أجل استعمال حقه ومن هنا تأتي الحروب، بحيث سيعود العالم إلى حالته الطبيعية بالدخول في صراع “الكل ضد الكل”، حيث يكون كل واحد مسكونا بهاجس البقاء والخشية على وجوده من تربص الآخرين فيلجأ للقوة والعنف من أجل الحياة.

 

 

الأوبزرفر العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى