تونس.. اثنا عشر عاما من “هرمنا” ولم نهرم

حكيم مرزوقي

اليوم، وبعد اثني عشر عاما من التغيير السياسي في تونس، يحق لأي مهتم بالشأن الثقافي التونسي، والعربي عموما، أن يسأل عن تلك الشعلات والجذوات الملتهبة التي طبعت المشهد الثقافي التونسي وأضفت عليه خصوصية فريدة في العالم العربي طيلة ما يقارب النصف قرن.

لماذا الحديث عن تونس دون غيرها من بلدان المنطقة العربية؟ الأمر في غاية البساطة والمنطق، هو أن مثقفي هذا البلد ما انفكوا يتباهون بأن الثقافة هي ثروتهم الوحيدة في بلد عزت فيه الثروات الطبيعية بل وراهنت عليها دولة الاستقلال منذ تأسيسها.

هذا بالإضافة إلى التميز الحاصل فعلا، على مستوى العديد من المعارف والفنون في ظل انتكاسات وتراجعات حصلت في بلدان كانت قد تزعمت الريادة الأدبية في ما يعرف بـ”النهضة العربية” في بلاد الشام ومصر والعراق نتيجة هيمنة أنظمة عسكرية تحكم وفق أيديولوجيات قومية.

الاعتماد على النموذج التونسي لتقييم نبض الثقافة العربية ومعرفة مدى تطورها أو انحسارها، صائب لأكثر من سبب موضوعي يتعلق أولا بجس نبض ما فعله “الربيع العربي” بالثقافة العربية، على اعتبار أن تونس قادت القاطرة منذ اثني عشر عاما.

وسواء كان التونسيون قادوا القاطرة نحو الخلف أو الأمام أو حتى أبقوا عليها معطوبة، إن لم نقل قد أعطبوها عن قصد أو غير قصد.

ومهما يكن من أمر فإن تونس تبقى النموذج الذي يمكن أن يقاس عليه في ما آلت إليه الثقافة في البلاد العربية طلوعا أو نزولا، ذلك أن إسهامات أبنائها واضحة في المعارف والفنون عند مدى اقترابها أو ابتعادها من ثقافات العالم، تماما كرياضة كرة القدم ومدى حضورها في المونديالات، إن صح هذا التشبيه.

حتى وإن أبقينا على هذه المقاربة الكروية مع الثقافة، فإن مثقفين وفنانين عربا وتونسيين حضروا في الثقافة العالمية مثل حضور نجوم كرة القدم في الأندية الأوروبية ليأتي السؤال المشروع: هل الفضل يعود إلى أقدام هؤلاء اللاعبين ومهاراتهم أم إلى الإستراتيجيات التدريبية والإمكانيات والمحفزات المالية التي تقف خلفهم؟

ولأن التقدم أو التخلف كل لا يتجزأ، سواء كان على المستويات الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية وغيرها، فإن الثقافة لا تنفصل عن هذا المبدأ وإن كانت في أغلب الأحيان تنتعش من الأزمات.

وبالفعل، انتعشت الحركة الفنية والأدبية في تونس من الأزمات وتألقت في أزمنة الحصار وتراجع الحريات، سواء كان ذلك زمن حكم بورقيبة أو بن علي.

كانت سنوات الجمر التونسية تفرز نخبا ثقافية قل وجودها في العالم العربي، ولكن أي “سنوات جمر”؟

ليست بالضرورة كمثيلاتها في بلدان عربية حُكمت بالحديد والنار، ذلك أن الزنازين وغرف التعذيب وسياسة قطع الأعناق والأرزاق، لا يمكن لها أن تفرز غير الجثث والإنتاجات الثقافية المريضة والمعتوهة كما حصل في بلدان عربية كثيرة حكمتها الأنظمة العسكرية.

أما أنظمة الحكم التي عرفتها تونس، فلم تكن – للأمانة والتاريخ – من تلك التي تدمّر ذات المبدع وتصنع منه كائنا عُصابيا ينتج نصا إبداعيا مشوها، كان الأجدر أن يُنظر فيه عند العيادات النفسية قبل منابر القراء والنقاد وجمهور المستمعين والمشاهدين.

يمكن أن نصف سياسات الحكومات التي مرت في تاريخ تونس الحديثة بأنها كانت تمتلك عصا غليظة لكنها كانت تمسك بها من الوسط، وتضيف إليها أشهى وأكثر من جزرة ووسيلة إغواء، أي أن المثقف لم يكن مقموعا بشكل مطلق، ولا مدللا بشكل لافت.

لعل هذه السياسة “البيداغوجية الصارمة” في التعامل مع المثقف قد نتج عنها نوع من “الاعتدال” في الإنتاج والتعامل مع القضايا الحياتية الراهنة في الإنتاج الفني والثقافي.

ليس الأمر “سياسة حكيمة” يتوخاها النظام التونسي ضمن إستراتيجية ثقافية محكمة، لكنها طبيعة تسري في سلاسة على مستوى الدولة والمجتمع، لذلك مازال التونسيون يتباهون بنزعة الاعتدال التي طبعت تاريخهم القديم والحديث على الرغم من الانزلاقات نحو التطرف الذي تسببت فيه عوامل خارجية.

الفضاءات الثقافية والمناخات الفكرية في تونس لم تكن منغلقة وذلك بحكم التاريخ والجغرافيا، لذلك لم تحصّن من التأثيرات السلبية الوافدة من المشرق، كما أنها لم تحرم من التأثيرات القادمة مع نسائم الشمال الأوروبي.

تونس كانت ولا تزال مسرح حضارات لا مهد حضارات، وهذا ما ميزها عن غيرها في المحيط العربي.. وليس السعي للتأصيل والتأسيس وإعادة التأصيل والتأسيس، كما هو الهوس السائد في البلدان الراكضة نحو وهم الهوية.

نحن إذن، إزاء ساحة شبه بكر، ولكنها ليست بكرا على مستوى الإنتاج الثقافي والمعرفي، كما أنها بلاد لم تشوهها ولم تنهشها الهويات الثقافية والدينية القاتلة كما هو الشأن في بلاد المشرق العربي.

هذا على الرغم من التجانس المقيت وعدم التنوع العرقي والثقافي الذي ينذر بالتسطيح و”البلاهة الثقافية” التي يحذر منها بعض الليبراليين، لكننا نجد اليوم التجانس نافعا يجنبنا الوقوع في الفتن والانقسامات.

ومع ذلك، وقعت البلاد، أو تكاد، في هذا الفخ بعد “الثورة” التي لم تكن ثقافية إلى حد الآن بل يمكن تسميتها بـ”الهزة” على مستوى وجدان المواطن التونسي ووعيه السياسي.

نعم، يمكن تسميتها بـ”الهزة الثقافية” التي لن ترتقي إلى كلمة “ثورة”، ذلك أنها لم تنتج وبعد عشرية كاملة من قيامها، إلا التشكيك في كل شيء.. أَوَ ليس الشك طريقا إلى اليقين؟ فليكن.

أكثر من عشر سنوات تمر اليوم على تلك المقولة الأيقونة لرجل قال في شارع الحبيب بورقيبة “هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية”.. رحل ذلك الرجل منذ شهر تقريبا، لكن اثني عشر عاما لم تنتج ما يمكن أن يغير الذائقة فعلا، أو بديلا ثقافيا جديرا بالوقوف عنده والانطلاق منه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى