تونس بين جبهتين

أسامة رمضاني

كان الأسبوع الأخير لشهر رمضان في تونس ملفتا وغنيا بالدروس لعدة اعتبارات قد لا تكون بديهية.

أول الدروس، وهو درس يبدو أن الحكومة التقطته بسرعة، هو أن خيطا رفيعا أصبح يفصل المواطن البسيط وانفراط العقد الذي يجمعه بالدولة بعد أن أرهقته جائحة كورونا كما أرهقته المصاعب الاقتصادية والخصاصة الناتجة عنها.

بعد أيام من إقرار إجراءات الغلق الشامل اعترف رئيس الحكومة وكذلك رئيس الجمهورية بأن هذه الإجراءات لم تكن كلّها موفقة. وبادر رئيس الحكومة هشام المشيشي إلى الإعلان عن أن التدابير الاستثنائية سترفع مباشرة بعد العيد وسوف ترافقها مساعدات اجتماعية كان من المفروض أن يتم الإعلان عنها قبل أسبوع.

فهمت الحكومة أنها بفعل الإجراءات التي اتخذتها كادت تتجاوز قدرة الفئات الضعيفة على الاحتمال فيما لامست الطبقات الهشة خط العصيان المدني.

يقول بعض الخبراء إن أسبوعا واحدا من الإغلاق الكامل يتسبب في خسارة على صعيد الناتج القومي الخام تقارب 1 في المئة. مثل هذا الرقم يدق أجراس الإنذار في آذان الحكومة ولكنه لا يعني شيئا عند صاحب الدكان الصغير أو عامل المقهى أو البائع المتجول الذي يجد نفسه حبيس بيت ضيق الأركان أثناء فترات الغلق وحظر الجولان. كل ما يعنيه خلال الحجر الصحي أنه لا يجد للرزق بابا.

التونسي ليس متمردا بالطبع ولكن بعض العوامل والظروف المحددة قد تدفعه إلى النزول للشارع والتصادم مع السلطة وحتى إلى المجازفة بحياته.

التونسي يحرّكه الجوع والخوف من الجوع أحيانا أكثر من غريزة البقاء ذاتها.

ويحركه أيضا الإحساس بالظلم و”الحقرة” (أي الاحتقار) من لدن أولي الأمر. وقد يكون الشعور بالاحتقار مجرد إحساس ناتج عن تأويله لقرارات السلطة أو عن تقصير من السلطة في الدفاع عن قراراتها. ولكن النتيجة هي نفسها حشود من المحتجين في الشارع وجها لوجه مع أمنيين لم تعد لهم رغبة في تكرار مواجهات الماضي وأخطائها المكلفة.

خلال الأيام التي سبقت عيد الفطر كان البعض من ذوي الدخل الضعيف الذين رأوا مصادر دخلهم مهددة نتيجة إجراءات الحجر الصحي يرددون شعار “قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق”، أي أنهم مستعدون للموت بكورونا ولكنهم غير مستعدين للموت جوعا.

هذا الشعار انعكاس لتآكل الثقة في قدرة السلطات أو إرادتها على ضمان العيش الكريم للفئات المحتاجة. كما هو امتداد لاهتراء الثقة في الطبقة السياسية إجمالا.

يصبح ذلك أحيانا مرادفا لفك الارتباط مع الدولة عندما تظهر السلطات عجزها على توفير الضمانات الكافية لكل المواطنين بأنها سوف تؤمنهم دوما ضد كل ما يمكن أن يهدد مستواهم المعيشي أو على الأقل مصادر رزقهم. عندما تنتشر التخمينات بأن الدولة تكابد الأمرين من أجل توفير أجور الموظفين يعرف المواطن البسيط حدسا أن عليه التعويل على ذاته فقط.

الاضطرابات المفاجئة هي أيضا انعكاس لخلل وظيفي يحجب عن رادارات المؤسسات الرسمية كتل الجليد تحت سطح الماء. هذا الخلل يطرأ عندما يضعف أو ينعدم الإنصات للشارع واستشراف توجهاته. عندما تكون رادارات الدولة والطبقة السياسية في أحسن أحوالها يمكن تجنب المفاجآت قبل أن تحدث بتغيير مسار السفينة أو باتخاذ الإجراءات الاحترازية الكفيلة بمحاذاتها.

هشاشة الوضع الاجتماعي تتضمن أيضا تنبيها للسلطة بصعوبة التحدي الذي سوف تواجهه في تطبيق الإجراءات التقشفية التي تخطط لها سواء في إطار الاتفاق مع صندوق النقد الدولي أو خارجه.

من المحتمل أن تشمل هذه الإجراءات تقليص الدعم الحكومي لأسعار المواد الأساسية والتخفيف من عبء أجور موظفي القطاع العمومي وإصلاح أوضاع المؤسسات الحكومية المثقل كاهلها بالديون.

أمام هذه القائمة تعرف الدولة أو على الأقل الحكومة القائمة أنها سوف تتحمل هي، وليس المؤسسات المالية المقرضة، تبعات أي قرارات متسرعة أو شديدة الوقع في مجتمع تبلغ نسبة الفقر فيه أكثر من 20 في المئة وهي مرشحة للزيادة في أجواء كورونا.

وحتى النقابات العمالية نفسها تعرف مسبقا أن قدرتها على تمرير الإجراءات التقشفية وتبريرها وخاصة الرفع في أسعار المواد الغذائية أو الاستغناء عن الموظفين ستكون محدودة جدا. وقد صرح أحد متحدثيها مؤخرا بأنه يجب حماية الطبقة الوسطى إضافة إلى الفئات الفقيرة كما أن الحديث عن تضخم أعداد الموظفين الحكوميين يمثل مغالطة اعتبارا لأن البلاد مازالت تحتاج حسب قوله، لتشغيل آلاف إضافية من الموظفين في قطاعي الصحة والتعليم على وجه الخصوص.

في هذه الأجواء تبدو هشاشة أو صلابة الجبهة الداخلية إلى حد كبير رهينة المواقف على الجبهة الخارجية. كل الاعتبارات الموضوعية تجعل النخب الحاكمة مهتمة بمواقف شركائها وأصدقائها الغربيين بالذات. هناك الولايات المتحدة وإلحاحها على الإسراع في نسق تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية. وكان ذلك إحدى الرسائل التي قرأها العموم من المكالمة الهاتفية التي أجرتها مؤخرا نائبة الرئيس الأميركي كمالا هاريس مع الرئيس التونسي قيس سعيد. الرسالة الثانية كانت بضرورة حماية المؤسسات الديمقراطية من النزاعات الداخلية. هذه الرسالة بالذات أوضحها بشكل أكبر السفير الأميركي في تونس.

أكد السفير دونالد بلوم في تصريح لمجلة “ليدرز” أن تونس في حاجة إلى “تفاهم” بين الفاعلين السياسيين من شأنه أن “يقدم إشارة قوية على مصداقيتها للولايات المتحدة والدائنين”.

وتبقى البلاد في انتظار مبادرات خارجية ربما مشابهة للقرار الأميركي الذي أعلنه وزير المالية التونسي والمتعلق بمنح تونس هبة بقيمة 500 مليون دولار.

ومن الأكيد أن قيس سعيد في حضوره للقمة الأفريقية – الفرنسية بباريس كان في إنصات شديد لمواقف شركاء تونس وأصدقائها من أجل سبر مدى استعدادهم للمساعدة.

مثل هذه المبادرات وأي مواقف إضافية ملموسة من المؤسسات المالية الدولية قد لا تخفف من التخوفات بشأن وطأة المجازفة بتطبيق خطة الإصلاحات ولكنها ستساعد على ذلك.

يحتاج البدء في الإصلاحات الصعبة إلى جبهة داخلية صلبة تسندها جبهة خارجية فاعلة. ودون الوثوق من الجبهتين الداخلية والخارجية ستكون عملية الإصلاح بكل تأكيد مجازفة غير محسوبة لا تجد من يشجع عليها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى