تونس: سقوط وصفة ميلوني والحل في صندوق النقد

مختار الدبابي

أثارت زيارات رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني ووزرائها وتصريحاتهم الحماسية آمالا كبيرة لدى التونسيين بأن أوروبا ستقف إلى جانب بلادهم في ظروفها الصعبة، وهو ما يجنبهم الاضطرار إلى التعامل مع صندوق النقد الدولي. لكن الزيارة الأوروبية الثلاثية حدت بشكل كبير من تلك الآمال، وجعلت الناس يقفون على حقيقة أن أوروبا لا تعطي بلا مقابل، كما أنها ليست في وضع يسمح لها بأن تعطي بلا حساب.

ليس هناك دولة أوروبية تعيش وضعا ماليا مريحا يسمح لها بأن تضخ أرقاما كبيرة من الأموال تعين بها تونس على الخروج من أزمتها. والمتابع لأوضاع دول غرب المتوسط يعرف أنها تأثرت بشكل لافت بالتطورات الدولية بدءا من جائحة كورونا وصولا إلى مخلفات الحرب في أوكرانيا وتأثيراتها على أسعار الطاقة والغذاء، بما في ذلك إيطاليا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا.

وفضلا عن مخلفات أزمة الطاقة والغذاء، فإن الدول الأوروبية “الثرية” تدفع فاتورة أخرى للحرب، من خلال تقديم المساعدات المالية بشكل مستمر لأوكرانيا، وشراء الأسلحة، وتدريب الأوكرانيين عليها، فضلا عن استقبال اللاجئين الهاربين من الحرب. كما أن هذه الدول ملزمة بتنفيذ العقوبات المفروضة أميركيا على روسيا، وهذا وجه آخر للخسائر التي تتكبّدها بشكل تصاعدي ولا أحد يعرف متى تنتهي محنة الأوروبيين مع هذه الحرب.

والمهم، هنا، التأكيد على أن أوروبا القديمة، التي كانت تدعم تونس بالأموال والتسهيلات وتعرض عليها مشاريع متعددة للشراكة، لم تعد في وضع مريح، ولا يمكن الاتكاء عليها ولا الاحتماء بها في عز الأزمات التي تعيشها تونس، كما كان يحصل في السابق.

لقد عكست حزمة المساعدات المتواضعة التي عرضها الاتحاد الأوربي على تونس الأحد حقيقة أن أوروبا لم تعد أوروبا، وأنه لا يمكن الرهان عليها لتحدي صندوق النقد الدولي ورفض شروطه، وخاصة مراقبته لمجالات وطرق توظيف الأموال التي يخصصها لهذا البلد أو ذاك.

قد تكون لباقة رئيسة الوزراء الإيطالية في الحديث عن تونس وحماسها لمساعدتها قد أوحت للتونسيين بأن الحل يكمن في الاتجاه نحو أوروبا خاصة أن الاتحاد الأوروبي، وعلى عكس الولايات المتحدة، لم يلجأ إلى ربط مساعداته بموضوع الديمقراطية وحقوق الإنسان ولم ينتقد توسيع الرئيس التونسي قيس سعيد لصلاحياته ضمن مسار 25 يوليو 2021.

لكن وصفة ميلوني لإنقاذ تونس عبر الاتحاد الأوروبي ظهر في الأخير أن أرقامها محدودة ولا تساعد عمليا البلاد على الخروج من عتبة الأزمة المالية.

وكان حديث التونسيين عن أن رئيسة الوزراء الإيطالية قد وعدت الأحد قبل الماضي بضخ 700 مليون يورو غير دقيق. ربما هناك التباس في الترجمة، خاصة أن وسائل إعلام إيطالية قد قالت إن الرقم الذي تحدثت عنه ميلوني هو رقم تقديري لمجموع الدعم الذي قدمته بلادها لتونس وليس ما ستقدمه في المستقبل، ودليل ذلك أنها لم تفصل كيفية تسديده، هل هو دفعة واحدة أم على أقساط.

ولا يعقل أن تقدم دولة أوروبية بمفردها دعما مفصولا عن الدعم الأوروبي بحجم أكبر وأهم من دعم الاتحاد نفسه، وهو دعم مشروط وبشكل واضح بتوقيع الاتفاق مع صندوق النقد. أي أن حزمة 900 مليون يورو (1.07 مليار دولار) ستكون لاحقة وليست سابقة لقرض الصندوق (1.9 مليار دولار)، وهو بدوره قرض على أقساط ومشروط بالمتابعة الدقيقة.

لقد ردد الأوروبيون نفس الكلام الذي تحدثت عنه دول الخليج حين ربطت مساعداتها المستقبلية بموافقة صندوق النقد، وما يعني ذلك من قبول بإصلاحاته التي يصفها الرئيس سعيد بـ”الإملاءات” ويصنفها ضمن التدخل في السيادة التونسية.

وليس هذا هو الشرط الأوربي الوحيد لحصول تونس على التمويلات، فهناك شرط أكثر حساسية ويتعلق بالتعاون في مجال الهجرة.

وتثير الصيغة الفضفاضة، التي جاءت في البيان المشترك التونسي – الأوروبي عقب الزيارة، التساؤلات حول ما تريده أوروبا من التعاون الثنائي لصد موجات الهجرة، هل يقف عند مضاعفة الحزم الأمني لمنع موجات اللاجئين أم أن من ضمن عناصر الاتفاق هو استعادة تونس من يتخذون منها نقطة عبور باتجاه أوروبا، أي العودة إلى فكرة توطين اللاجئين في دول جنوب المتوسط مثل تونس وليبيا.

ويقول البيان المشترك “إن مكافحة الهجرة غير النظامية من وإلى تونس وتفادي الخسائر البشرية في البحر هي أولويتنا المشتركة، بما في ذلك مكافحة المهربين والمتاجرين بالبشر وتعزيز التصرف في الحدود والتسجيل وإعادة القبول في كنف الاحترام الكامل لحقوق الإنسان”.

ولا يعرف إن كانت “إعادة القبول” تخص استعادة التونسيين الذين هاجروا بشكل غير نظامي باتجاه أوروبا أم تخص كل من اتخذها نقطة عبور مقابل تمويل أوروبي، كما جاء في حديث رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين حين قالت إن التكتل مستعد لتقديم 100 مليون يورو لتونس هذا العام لمساعدتها في إدارة الحدود وعمليات البحث والإنقاذ وعمليات مكافحة التهريب وإعادة اللاجئين مع “احترام راسخ لحقوق الإنسان”.

هل هذا هو الاتفاق الذي سعت رئيسة وزراء إيطاليا لإقناع التونسيين به خلال زيارتها الأحد قبل الماضي، وهل كانت التصريحات الإيطالية المتعددة المشيدة بتونس والمتحمسة لدعمها مجرد مظلة ذكية لتمريره، وهل كانت الحكومة التونسية على علم به من البداية، ولماذا التزمت الصمت بعد توضح المقترح الإيطالي؟

وقالت ميلوني الأحد إن هناك “فرصة مهمة” لوضع اللمسات الأخيرة على اتفاقية المساعدة أمام المجلس الأوروبي بنهاية يونيو.

من الواضح أن “هذه الفرصة المهمة” تستثمر الوضع المالي الصعب لتونس، وخاصة تأجيلها للاتفاق مع صندوق النقد، من أجل الضغط على حكومة نجلاء بودن للقبول بالشروط الأوروبية على ضآلة أرقامها وحساسية مطالبها، وخاصة موضوع توطين اللاجئين الذي يلاقي رفضا رسميا وشعبيا.

من البداية كان واضحا أن هناك مقاربة أوروبية – أميركية مشتركة ترى أن الحل بالنسبة إلى تونس يمر عبر صندوق النقد الدولي، وأنها لا تستطيع تحصيل دعم ولا تمويلات من خارج هذا الاتفاق، وهذا كشفته تصريحات مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل لتؤكده فون دير لاين الأحد. والنتيجة نفسها من الرهان على الاتجاه شرقا نحو روسيا أو الصين وبريكس، وهو رهان كلامي تنفيسي أكثر منه فرصا ممكنة.

لقد أسقط العرض الأوروبي المحدود ماليا والفضفاض زمنيا وصفة الدعم التي تحدثت عنها ميلوني ووزراؤها طويلا. ولأجل هذا سيكون من الضروري الالتفات بجدية لوصفة صندوق النقد الدولي، وهي وصفة مجربة ومعلومة وواضحة وشروطها يعرفها القاصي والداني ويمكن التفاوض لتعديلها خاصة ما تعلق بالمرونة في الرفع التدريجي للدعم عن المواد الأساسية كما حصل ويحصل مع مصر والأردن.

صحيح أن الرئيس سعيد رفع سقف الأماني أكثر من اللازم حين رفض مناقشة شروط صندوق النقد. لكن الضرورات تبيح المحظورات خاصة بعد أن جربت الحكومة التونسية طرقا متعددة للحصول على التمويل لتجدها سبلا التفافية تنتهي عند مشترك واحد هو الشروط القاسية.

لا تمتلك تونس رفاهية الوقت بالشكل الذي يسمح لها بالانتظار لأشهر أو لعام أو عامين من أجل جولة من المفاوضات والبحث عن البدائل هنا وهناك. كما أن كل المؤشرات تقول إن البدائل الذاتية محدودة، بما في ذلك ضريبة رفع الدعم عن الأغنياء، وإن أقصى ما تحققه أنها تساعد على إنجاح برنامج الإصلاح الذي يطلبه صندوق النقد الدولي، ولكن لوحدها، فهي لا توفر أيّ حلول.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى