تونس.. فخاخ في طريق الفخفاخ

أمين بن مسعود

اختار الرئيس التونسي قيس سعيّد الشخصية التي يعتبرها الأقدر وفق نصّ الدستور، لتكليفها بتشكيل حكومة جديدة بعد أن رفض البرلمان منح الثقة لحكومة الحبيب الجملي.

اختار سعيد إلياس الفخفاخ وزير المالية الأسبق في حكومة الترويكا والقيادي الأبرز في حزب التكتل من أجل العمل والحريات، والمتنافس على كرسي الرئاسة خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة، لمنصب رئاسة الحكومة، ولئن ثارت ثائرة الرافضين لهذا الخيار حيث اعتبروه التفافا على نتائج الانتخابات البرلمانية والرئاسيّة، إلا أنّ الأقرب للواقع أن اختيار سعيّد كان متطابقا مع تصوره للحكومة المقبلة ولطبيعة العلاقة القادمة بين القصبة وقرطاج.

لا يزال سعيّد، يؤمن بأنّ الرباعي (النهضة والشعب والتيار الديمقراطي وتحيا تونس) الذي جمعه على طاولة المفاوضات في قصره لإنقاذ مسار المشاورات، وتشكيل حكومة ذات نفس ثوري، هو الرباعي الأكثر ملاءمة لتوجهه السياسي ولانتظاراته من الحكومة المقبلة، وأن الحبيب الجملي فشل في جسر هوة انعدام الثقة الموجودة بين أضلع الرباعي السياسي، كما فشل أيضا في إعطاء هذا التقارب الحزبي حيز الزمن الكافي، وتسرع في الارتماء في سيناريوهات عقيمة رمت به على هامش الحدث السياسي في تونس.

وما اختيار الفخفاخ لرئاسة الحكومة، إلا من أجل إعادة الروح إلى هذا التحالف الرُباعي وإعطاء فُرصة ثانية للتقارب بين هذا الرباعي، لا على سبيل التشارط المتبادل بل وفق مقولة تنازل الضرورة، فلا بدائل دستورية عن فشل الفخفاخ في تشكيل الحكومة ونيل ثقة البرلمان، إلا إعادة الانتخابات التشريعية.

منذ الوهلة الأولى لاستقبال أسماء ترشيحات الأحزاب لرئاسة الحكومة، وسعيد يبحث عن العصفور النادر، القادر على تجميع “العائلة الثوريّة”، الأمر الذي جعله يُلحق اسم الفخفاخ ضمن قائمة رؤساء الحكومة المفترضين، وهو الذي لم يقترح اسمه إلا من قبل حزب تحيا تونس، مقابل أسماء أخرى نالت تزكية أكثر من حزب وتكتل برلماني.

باختيار الفخفاخ يكون سعيّد، قد اختار شخصية سياسية واقتصادية تنتمي إلى مدرسة اليسار التضامني ولها تجربة في “خزينة الدولة”، ولها أيضا انضواء واضح صلب ما يُعرف بالتيار الثوري.

مثلت الكلمة التي ألقاها الفخفاخ عقب تعيينه في المنصب، الخيط الناظم لطبيعة حلفائه في الحُكم وللعلاقة بين الحكومة ورئاسة الجمهورية، فالانتصار لمبادئ الثورة وأهدافها مع التزامه بتشكيل حكومة سياسية متناغمة مع إرادة الناخبين، مع تطلعه لإرساء لبنات الدولة العادلة والقوية والصادقة عناصر تؤكّد أنّ الرجل يمتلك شبكة مؤشرات واضحة تسمح له بالتقارب مع أطراف سياسية وتفرض عليه النأي في المقابل عن أطراف أخرى.

ابتعد الفخفاخ منذ الوهلة الأولى عن المطبات السياسية التي وقع فيها الجملي، حيث تاه الأخير في دوامة التعريف السياسي لحكومته وبيانها السياسي الواضح وخياراتها الصريحة.

أرسل الفخفاخ ثلاث رسائل سياسية كبرى خلال بيان التكليف. أولها للاتحاد العام التونسي الشغل وكامنة في أنّ الانتماء إلى الثورة لا يعني السقوط في تصفية الحسابات السياسية الضيقة والتي تردت لها بعض الأطراف السياسية المحسوبة على التيار الثوري. والرسالة الثانية لحزب قلب تونس بأنه منفتح عليه خاصة في القضايا ذات العناوين الاجتماعية والاقتصادية. والثالثة لمؤسسة الرئاسة بأن الحكومة ستكون في تكامل معها لاسيما وأنه يستقي شرعيته من شرعية الرئيس الذي قدم إلى قصر قرطاج مدججا بأعلى تصويت شعبي في الانتخابات.

وإلى حين الانطلاق الفعلي في مُشاورات تشكيل الحكومة مع الأطراف السياسية والمنظمات الوطنية، فإن الفخفاخ يُدرك أنّ البيئة السياسية القائمة تدفع نحو التعامل الجدي مع حكومته، لا فقط لأنّها تستمد جزءا من شرعيتها من شرعية الرئيس سعيّد على خلاف الجملي، بل لأن حكومته أصبحت في أعين الكثيرين حكومة الضرورة تجنبا للضرر الانتخابي.

في حسابات الفخفاخ، فإن مُشاورات تحظى بالضمانات الرمزية لرئيس الجمهورية، قادرة على أن تفضي إلى تحالف رباعي في الحكم، معززا بحزام برلماني يضم كتلة الإصلاح الوطني ومجموعة أخرى من المستقلين، وهو ما قد يسمح لحكومته بنيل ثقة البرلمان وباستدرار المصداقية لدى الأطراف الدولية والجهات المانحة.

ولكن يبدو أن الفخفاخ سقطت من تقديراته، حسابات سياسية عديدة، قد تعيد خلط الأوراق من جديد، لعل أولها أزمة الثقة الكبيرة بين النهضة من جهة، والكتلة الديمقراطية من جهة أخرى، وثانيها إمكانية اصطدام مقاربة الإصلاح ومحاربة الفساد لدى التيار الديمقراطي بصلاحيات رئيس الحكومة.

وثالثها التموقع الجديد لقلب تونس وإمكانيات التّقارب مع تحيا تونس. ورابعها المُعارضة المفترضة لحكومته وهي معارضة واسعة (ائتلاف الكرامة وقلب تونس والحزب الدستوري الحرّ) لا تشجع أي رئيس حكومة على العمل.

وخامسها الرفض المنتظر لإمكانيّة تحويل برنامجه الانتخابي في الرئاسية إلى برنامج رئاسة الحكومة. أما سادسها فهو موقف قطاعات كبيرة من النقابيين حيال خياراته الاقتصادية، حيث سبق للاتحاد أن أعلن إضرابين عامين خلال فترة توليه لوزارة الماليّة أي في سنة 2013.

بعيدا عن حسابات البيدر وبمنأى عن حسابات الحقل، فإن حسابات الوطن تفرض على الفخفاخ انكبابا على الملفات المستعصية وتخففا من الحمولة الحزبية الضيقة، وسعيا إلى إنقاذ الأمل المشترك من خيبات الفشل الجماعي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى