تونس: لا يمكن لعربة البوعزيزي أن تفرّخ عربات الفوضى

حكيم مرزوقي

عربة الخضار التي كان يلتقط منها محمد البوعزيزي رزقه قبل دخوله في مشادة كلامية مع الموظفة المكلفة بالإجراءات البلدية، تحولت إلى نصب تذكاري عملاق في مدخل مدينة سيدي بوزيد التونسية.

وبات يرتزق من تلك العربة القاصي والداني بعد 14 يناير 2011 في تونس، حتى أنه قيل ـ والعهدة على الراوي ـ إن الذي أمده بالكبريت والبنزين كي يضرم النار في نفسه، قد أصبح يطالب بنصيبه من غنيمة تلك الثورة المستباحة.

بعد ما اصطلح على تسميته في بعض الأوساط الإعلامية بـ”ثورة عربة الخضار”، تناسلت عربات البيع وتكاثرت كالفطر على أرصفة المدن التونسية التي بدأت تشهد فوضى عارمة لم تعرفها من قبل.

هذه الفوضى أصبحت تمارس باسم الحريات التي “بشرت بها ثورة عربة البوعزيزي”، لكنها تخفي في حقيقتها، حالة تدمير ممنهج لاقتصاد الدولة في سبيل أن يحل مكانه اقتصاد مواز يتزعمه المهربون والفاسدون ومبيضو الأموال.

مدن تونس التي كانت تعرف بنظافتها وانضباط إدارتها المحلية أصبحت مسرحا للفوضى العارمة وعنوانا للعشوائية والإهمال والاتساخ بسبب هذه “الحريات” المتمثلة في “الانتصاب الفوضوي” وفق المصطلح اللغوي المستخدم في لغة البلديات.

رافق هذه الفوضى المدمرة ظهور فئة من البلطجية تستقوي على أصحاب المحلات المرخصة وتحتل جميع الأرصفة ومداخل البنايات، وحتى أمام المدارس والمؤسسات العمومية، بالإضافة إلى خلو المواد والبضائع التي تبيعها العربات من أي مراقبة صحية أو تموينية.

التهرب الضريبي بات عنوان المرحلة التي بشرت بها ثورة العربات العشوائية، وصار واضحا للعيان أن هناك مخططا صريحا لاستهداف الدولة والانقضاض على مؤسساتها من قبل من يدعون أنهم وصلوا إلى سدة الحكم بإرادة الشعب.

هذا “الشعب” جُير وزُور باسمه كل شيء، حتى أصبحت غالبية من أبنائه تتحسس طعم الندم على كل مرة رفعت فيها وآزرت شعار الحريات التي استخدمت فيما بعد لقمع حريات أخرى، والاعتداء على حقوق من يختلف مع جماعة حركة النهضة التي تمسك مع حلفائها بزمام الحكم.

الإسلاميون بدؤوا بإيهام الناس بأن حل مشاكلهم الاجتماعية يمر من بوابة الاعتداء على القانون ونسف بقية النظم الإدارية التي تأسست عليها دولة الاستقلال، فعمدوا إلى إسناد الرخص والتصاريح والشهادات إلى من هب ودب، ودون النظر في طاقات الاستيعاب أو الاحترام للمؤهلين وأصحاب الحقوق الشرعية.

عمت شريعة الغاب واختلط الحابل بالنابل، وفقد المواطن العادي أبسط حقوقه في السير على أرصفة نظيفة وخالية من عربات البيع الفوضوي التي تمارس الغش والاحتكار والمضاربة فحلت العملة الرديئة محل العملة الصحيحة.

ارتفع صوت الناس بالتذمر والتشكي من هذه الفوضى منذ سنوات حرصا على نظافة مدينتهم كأضعف الإيمان، لكن أصواتهم كانت مبحوحة وعديمة الجدوى في ظل حكم من يشجع على الفوضى بل ويعتبرها النظام الأمثل لحكم الدولة والمجتمع.

أما الآن، وقد استعادت الدولة قوة حسمها ورباطة جأشها رغم الأنات والعثرات، فقد بدأت مدن تونس تتنفس الصعداء بفضل حملات تطهير الأرصفة وتحريرها من كابوس تلك العربات التي تقض راحة الجميع.

وبالفعل، قامت وحدات الأمن الوطني في تونس ببدء حملات منع ومكافحة البيع الفوضوي في عدد هام من شوارع العاصمة تونس وفي أسواقها الشعبية، بالإضافة إلى نشر نقاط أمنية حتى لا تتكرر مشاهد التجاوزات في بيع البضائع مجهولة المصدر والشروط الضريبية والصحية.

وعنونت الصحف التونسية وبالخط العريض “الدولة تستعيد هيبتها، المواطن يسترد حريته، والعاصمة تتحرر من قيود الانتصاب العشوائي”.

هذه المرة لا حديث عن صبغة ظرفية أو نوبة مداهمات تظهر ثم تختفي ضمن أسلوب متردد تتحكم فيه أمزجة الأشخاص بل هي إرادة سياسية من أعلى هرم الدولة، وعزم على المضي قدما في هذه الخطوة التي لا بد منها وقد انتظرها التونسيون على امتداد عشر سنوات من حكم الإسلاميين.

وبالمقابل، فإن التشكيات لا بد منها، ولا يمكن للدولة أن تصم آذانها عنها، من طرف آلاف الباعة الذين تعتاش عائلاتهم من تلك العربات، والحكومة هنا بالتأكيد، لا تسعى إلى قطع الأرزاق بل حاولت أن توجد لهم بدائل في مختلف المدن التونسية، وبظروف تنظيمية وصحية معقولة.

المشكلة لدى هؤلاء الباعة أن جميعهم يظنون أنفسهم على حق، والحكومة تظلمهم وتستهدف أرزاقهم، وهي ذريعة تضخمها وتنفخ فيها بعض الجهات المغرضة بهدف إثارة الفوضى وتقويض الأمن العام خدمة لبعض الأجندات السياسية، ولكن هيهات، فقد أزفت ساعة العمل الجاد، ولا مجال للمظلوميات الكاذبة كما كان في السائد.

كلا الطرفين يظن نفسه على حق.. ولكن “ليت شعري ما الصحيح؟” كما كان يقول المعري.

التضليليون كثر، سواء من طرف الموالاة أو المعارضة، لكن الحقيقة لا ترقد تحت هذا الاستقطاب الثنائي الحاد، فالبلاد قد ملت سؤال “هل أنت مع أو ضد؟”.

لم يعد التونسيون، وقد اشتعلت رؤوسهم شيبا وهموما، يبالون بهذا السؤال الاستقطابي الذي ترمي به جميع الأطراف الحزبية والنقابية طعما في المياه الآسنة من أجل صيد لا يغني ولا يسمن من جوع.

لم يعد الشعب مغفلا كما كان يتبادر لأذهان البعض، فالناس قد ألفت السياسة، أتقنتها ثم لفظتها في سبيل البحث عما ينفع الناس.

سئم سكان هذا البلد من استخدامهم “طعما” من أجل اصطياد بعضهم بعضا، ولم تعد الحيل تنطلي بسهولة على طرف ضد آخر.

الذين يستخدمون الأزمات في سبيل تأليب طرف ضد آخر، يفشلون هذه المرة، فلا فلول أصحاب العربات المصادرة والمطاردة، نجحت المعارضة في ترويضها لصالح الحكومة، ولا نجح المزايدون في استخدامها لكسب نقاط تغذي الخصومات وتقسم المجتمع إلى نصفين.

الذين فقدوا عرباتهم في الزحام هم أبناء هذا المجتمع المغلوب على أمره بفعل عوامل داخلية وخارجية، ذاتية وموضوعية، فاعلة ومفتعلة، وكذلك يفشل المراهنون على الزج بهم في أتون سباق غير متكافئ ومعادلة مغلوطة وواهمة.

الكل في تونس معه حق: أصحاب عربات الفوضى، وكذلك الساعون لمنعهم من الانتصاب الفوضوي في الساحات والشوارع.. فما العمل؟

البحث عن حلول هو مسؤولية الجميع، واستخدام المشكلة ذريعة سياسية لاستقواء طرف على آخر، هو مطب قد يقع فيه الجميع.. وساعتها قد تقع البلاد في “حرب البسوس”.. وما أوهن الذرائع عندئذ.

المشكلة أن كل طرف يجهل أنه وقود يؤجل استخدامه لحرب لا خاسر فيها غير الشعب والدولة، والأجيال التي تزحف هذه الأيام بلونيها الوردي والأزرق نحو منابع العلم والمعرفة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى