تونس ومنطق الاستغناء عن القروض!

رياض بوعزة

تترسخ حقيقة أن تونس تحتاج إلى معجزة للخروج من دائرة النظرة الدولية السلبية في تصنيف أوضاعها الاقتصادية، والتي تتفاقم بفعل مخاطر انحسار السيولة النقدية. تبدو مفاتيح الحل كثيرة نظريا، مع ذلك الواقعُ يعطينا رؤية أخرى لدولة تحاول إعادة تشكيل استقلالها ماليا بعيدا عن ضغوط الابتزاز من الشركاء أو الحلفاء التقليديين.

إصرار الرئيس قيس سعيد على رفض “الانصياع” لإملاءات صندوق النقد الدولي للحصول على قرض يمكن أن يمنح البلد بارقة أمل نحو تخفيف الأزمة المالية، يعطي إيحاءات بأن تونس تتجه إلى الاستغناء عن القروض الخارجية أو الدعم الغربي. قد تكون خطوة كهذه مدخلا لبناء نموذج اقتصادي مختلف حسب فلسفة الرئيس، لكن هل تتوافق أرقام الديون والالتزامات المالية مع واقع الدخل من دون مساعدة؟

مسألة الديون وتمويل الميزانية يمثلان عقدتين من نوع خطير رددهما أغلب المسؤولين الذين تعاقَبوا على الحكم منذ عام 2011 جراء سياساتهم الفوضوية اللامسؤولة، ما انعكس على أوضاع التونسيين وخاصة خلال وباء كورونا، وتحولت معه الطبقة المتوسطة من ركيزة مهمة للتوازن بين شرائح المجتمع إلى مثال لسوء المعيشة. من هنا يتكئ قيس سعيد على فكرة تنطلق من اعتماد مقاربة تستند إلى أساسيْن مُهمين، الأول الاعتماد على الذات وخلق الثروة، والثاني تنويع الشركاء من أجل إقفال صنبور القروض ولو مؤقتا.

ثمة تحول ينتهجه قيس سعيد رغم البطء في التنفيذ نحو كون أن الديون، التي يتوقع أن تصل إلى قرابة 40.8 مليار دولار بنهاية 2023، لا يمكن أن تقل أو تنقرض إلا بتقديس قيمة العمل وبترك التقاعس والخمول والكسل، بغية تغيير عقلية الذهاب في كل مرة تختنق فيها تونس إلى الخارج لتقترض، ثم تأتي حكومة لتنفق القرض على بند المصروفات (دعم، توريد، أجور وغيرها)، وليس الاستثمار، وتعيد الكرة مرات دون أن يرى التونسيون آثارها واقعيا.

تجلى ذلك خلال زيارته الأخيرة إلى المعتصمين بمنطقة الحوض المنجمي، مركز إنتاج الفوسفات ومشتقاته، لكي يتخذهم ظهيرا له في مساعيه نحو ترجمة رؤيته بأن الموارد موجودة، ولا حاجة لتونس إلى استعطاف الخارج تحت يافطة الشراكة للحصول على الدعم، وبذلك يكون قد ضرب عصفورين بحجر واحد؛ تحريك عجلة قطاع كان في يوم ما أحد المحركات الإستراتيجية للنمو إلى جانب السياحة والزراعة، وفي الوقت ذاته الحد من عثرة المطلبية المزمنة وتنشيط سوق العمل.

الأمر لا يخلو من مقامرة، إذ حتى لو عادت الدواليب الاقتصادية الأساسية -الفوسفات على سبيل المثال لا الحصر- إلى الدوران كما يتصوره من هم في هرم السلطة، فإن الأمر يتطلب وقتا لجني الإيرادات لكي يتم ضخها في الخزينة العامة، التي تفقد سنويا الملايين من الدولارات بسبب التهرب الضريبي والسوق السوداء التي قضمت نصف الناتج المحلي الإجمالي للبلد والبالغ 50 مليار دولار وفق آخر تقديرات صندوق النقد.

على الورق يمكن للدولة تحصيل عوائد كبيرة قد تصل إلى 1.3 مليار دولار من تصدير الفوسفات خاما فقط سنويا في حال عاد الإنتاج إلى مستويات ما قبل 2011، أي نحو 8 ملايين طن سنويا بالنظر إلى ارتفاع الأسعار في الأسواق الدولية حاليا، في حين لو شددت المراقبة الجبائية فإنه يمكنها ضخ قرابة 4 مليارات دولار إضافية إلى الخزينة العامة كعوائد ضريبية، إلى جانب ما تدره السياحة وتحويلات المغتربين، بما يسهم في سد جزء من ميزانية بلغ حجمها هذا العام 17.4 مليار دولار.

قد يكون الوقت ليس في صالح الدولة التي تسابق الزمن لسداد ديون بقيمة خمسة مليارات دولار، تتوزع بين ديون محلية وخارجية، ستشهد ذروتها خلال الأشهر المقبلة، إضافة إلى 1.7 مليار دولار من الفوائد، بيد أنه في خضم ذلك هناك مؤشرات على أن المسؤولين يدرسون بجدية مسألة انضمام تونس إلى تحالف بريكس أو على الأقل الظفر بعضوية بنك التنمية التابع لهذه المجموعة، وهو مقترح مثير للجدل تعتقد السلطة أنه ينسجم مع اقتناعها بضرورة تنويع علاقات التعاون وعدم الاقتصار على التعاملات التقليدية التي كان يقودها الأوروبيون والأميركيون ومازالوا يقودونها.

بغض النظر عن سوء الحوكمة للحكومات المتعاقبة خلال أربعة عقود، قد يكون منطق قيس سعيد مفهوما في هذه الظروف، وفي ظل انتقادات المعارضة أو الدول الغربية لسوء إدارته للوضع على أكمل وجه، لكن هل يتذكر في أي ميزانية من الميزانيات السنوية منذ استقلال البلاد تم الاستغناء عن الديون أو الهبات أو المساعدات الخارجية، التي تسعف تونس بها الدول الغنية أو المؤسسات المالية المانحة حتى توقظ اقتصادها الهش غير المبني أصلا على أسس قوية. قس على ذلك العشرات من الدول ممن هي في وضعية تونس وربما أتعس.

لا شك أن الديون التي يحل موعد سدادها تشكل اختبارا صعبا وقاسيا للدولة، في ظل شح السيولة النقدية، وعدم ظفرها باتفاق نهائي مع صندوق النقد يسد جزءا من رقعة الاحتياجات التمويلية الطارئة، والرصيد الذي تملكه من العملة الصعبة، وهو أقل من 7 مليارات دولار، قد يسمح لها بالصمود حتى آخر هذا العام لأن هامش تحركها ربما يتقلص أكثر في 2024، وبالتالي فلا مفر عاجلا، وليس آجلا، من توفير التمويل من الخارج لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى