حرب على المخدّرات أم على فنزويلا؟
وعد الرئيس الأميركي دونالد ترامب بنزع فتيل التوتّر بين أفغانستان وباكستان “بسرعة كبيرة”، في سياق تظهير صورته صانعاً للسلام على مستوى العالم، بعدما أنجز اتفاق وقف النار في غزّة “الذي لم يحدث مثيلٌ له في تاريخ الشرق الأوسط منذ ثلاثة آلاف عام”، علماً أن بنيامين نتنياهو يخرق الاتفاق كل يوم منذ ثلاثة أسابيع، متمسّكاً بشهوته الدائمة لقتل مزيد من المدنيين. ويستذكر المرء أنه في ذروة الجنوح العلني إلى السلم، أغارت قاذفات أميركية على إيران تعضيداً لغارات إسرائيلية شُنَّت على هذا البلد في يونيو/ حزيران الماضي.
وفي هذه الأيام، تتواتر أنباء عن تحضيرات لهجمات على فنزويلا، فتطوف قطع عسكرية بحر الكاريبي مع نشر مدمّرات وطائرات إف-35 وغواصة نووية، واستُهدفت قوارب فنزويلية، ما أسفر عن مقتل عشرات. كما مُنحتْ الاستخبارات الأميركية إذناً من ترامب للقيام بعمليات سرّية داخل الأراضي الفنزويلية. وكان من المثير في هذا الخصوص إعلان كراكاس القبض على مجموعة كانت تخطّط لمهاجمة السفينة الحربية الأميركية “يو إس إس غريفلي”، التي ترسو في البلد المجاور ترينيداد وتوباغو، تمهيداً لاتهام حكومة كراكاس بالاعتداء عليها، لتوفير ذريعة لعدوان أميركي على فنزويلا.
وفي مجال الذرائع، تتّهم واشنطن كراكاس بتصدير المخدّرات إليها، بالتعاون مع منظّمات وشبكات إجرامية، وأحيانا بالتعاون مع جهات أمنية رسمية. ويُعَدُّ تصنيع المخدّرات وتهريبها تحدّياً جسيماً وقديماً في ذلك الجزء من أميركا الجنوبية، ما يقتضي تنظيم الجهود وتبادل المعلومات على مستوى إقليمي لمكافحة هذه الظاهرة بمزيد من النجاعة، وبينما تبرُز الحاجة إلى تعزيز الحرب على المخدّرات، تشي تطوّرات الأسابيع القليلة بأن الحرب المحتملة سوف تستهدف دولة فنزويلا، وليس كارتيلات المخدّرات (تحالف منتجي هذه السموم وتجّارها) المتوزّعين بين حدود (وفي شرايين) أكثر من بلد. غير أن فرص التفاهم مغلقة بين جمهورية فنزويلا والولايات المتحدة منذ 2019، مع قطع واشنطن علاقاتها مع كراكاس على خلفية الانتخابات الرئاسية التي أجريت في هذا البلد، وفاز بموجبها الرئيس الحالي نيكولاس مادورو، وشكّكت واشنطن والغرب بنزاهة العملية الانتخابية وصحّة نتائجها. على أن العلاقات بين الجانبَين كانت متوتّرةً قبل ذلك التاريخ بنحو عقدَين، منذ وصول الاشتراكي (الشعبوي) هوغو تشافيز إلى الحكم في 1999، وتجدّد انتخابه رئيساً، وحتى وفاته في 2013، وهو الذي شقّ طريق تأميم النفظ في بلد يمتلك أكبر احتياطي نفطي في العالم، ومنع وجود قوات أجنبية، ووجّه الاقتصاد نحو تلبية حاجات الفئات الأشدّ ضعفاً في الصحّة والتعليم والسكن. وفي واقع الحال، قام الاقتصاد الفنزويلي على عائدات النفط في المقام الأول، من غير إيلاء اهتمام كبير لتحسين إنتاج الثروة الزراعية ولا إلى استثمار خامات المعادن. وقد حقق تشافيز نتائج ملموسة للفقراء بإنشاء مئات المدارس والعيادات الطبية وآلاف الوحدات السكنية، غير أن الاعتماد الأحادي على النفط، وعدم صيانة آليات إنتاجه وتكريره، ثم انخفاض أسعاره عالمياً، أدت إلى تحسين ظروف معيشة الفقراء بصورة ملموسة ولكن مؤقّتة، فقد ظلّ الاقتصاد يشكو من ضآلة فرص التنوّع والموارد، مع التضييق على القطاع الخاص، ما أدّى في المحصلة (وبالتدريج) إلى نتائج عكسية، كحال من ينفق أمواله كلّها على بناء بيت وتأثيثه بأثاث حسن وشراء سيارة، من دون أن يُبقى له مورداً للعيش، ما يضطره بعدئذ إلى بيع السيارة، ثمّ بيع البيت، للوفاء بحاجة عائلته إلى ما يقيم الأود. وهو ما طبع حياة الملايين في هذا البلد في ظلّ حكم الرئيس الحالي مادورو، الذين تضرّروا من الضعف الهيكلي لاقتصاد بلادهم، فتجدّدت موجة الفقر، ومعها نقص الحاجات المعيشية الأساسية، واضطرب حبل الأمن الاجتماعي، واندفعت أعداد هائلة إلى الهجرة، وبخاصة بين عامي 2014 و2020.
وتستغلّ الولايات المتحدة حالة التدهور الاقتصادي والاجتماعي، معطوفةً على تقييد الحرّيات والمعارضة، لشنّ حرب سياسية واقتصادية على هذا البلد، الذي أخذ يتّجه “شرقاً” نحو الصين وروسيا (وإيران)، وهو ما أسهم في تصليب قدرات الدولة في المجال الدفاعي، وفي تسويق النفط، وفي كبح الانهيار الاقتصادي، وتحت عناوين شراكات استراتيجية مع الدولتَين الكُبريين. ويُلاحظ أن التهديدات الأميركية والاستعراضات العسكرية، وحتى مخاطر شنّ هجمات قوية على فنزويلا، لم تثر بعد ردّات فعل واسعة في موسكو وبكين، فيما لا تجد هذه الأزمة المحتدمة أصداءً لها في أروقة الأمم المتحدة، وبالذات في مجلس الأمن، بينما تبرُز ردّات فعل سياسية قوية في بلدان مثل كولومبيا والبرازيل، تحذّر من عودة شبح التدخّلات الأميركية في أميركا البوليفارية (نسبة إلى الثائر في وجه الاحتلال الإسباني بوليفار). بينما ترتفع داخل فنزويلا نداءات التعبئة وحشد الصفوف وشحذ المعنويات، مصحوبةً بنداءات تصالحية من الرئيس مادورو، الذي توجّه بخطابات قصيرة شدّد فيها على أن “لا للحرب، نعم للسلام. لا نريد الحرب المجنونة”، وهو ما يزيد من اتساع القاعدة الاجتماعية للحكم في هذه المرحلة، ويربك المعارضة التي نالت زعيمتها ماريا كورينا ماتشادو جائزة نوبل للسلام قبل ثلاثة أسابيع، ما يملي عليها الدعوة إلى نبذ الخيار العسكري وتغليب الحلول السياسية للأزمة.
تفيد تقديرات عديدة بأن حرباً كبيرة لن تقع على هذا البلد، وأن الهدف الأميركي زعزعة الوضع الداخلي، وترهيب القوات المسلّحة الفنزويلية، وكذلك الدائرة القريبة من مادورو، للدفع نحو إزاحته وتغيير النظام الذي ينسج علاقات وثيقة مع الخصوم الاستراتيجيين للإدارة الأميركية، فيما يبقى احتمال توجيه ضربات قوية على مراكز ومنشآت حيوية وعسكرية وارداً، وبما يضاهي الضربات التي وُجّهت ضد إيران، ويتباهى بها ترامب، قبل أن تغادر أكبر حاملة طائرات أميركية (يو إس إس جيرالد فورد) مياه الكاريبي.



