حكومة الدوامة في تونس

مختار الدبابي

ستكون حكومة هشام المشيشي بمثابة دوامة بحرية قد تبتلع من يقف وراءها مثلما تبتلع خصومها وتطيح بهم.. لا أحد يعرف من سيكون المستفيد، ولا كيف ستتصرف الأطراف السياسية لتطويق مخلفات حكومة تقول المؤشرات إنها ستكون وحيدة ومحاصرة في البرلمان إذا سمح لها بنيل الثقة والبدء بإدارة الشأن العام.

يسيطر التفاؤل على داعمي الحكومة، وأغلبهم نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي من دوائر شعبية مختلفة باتت ناقمة على الأحزاب السياسية بسبب خسارة عشر سنوات من تجربة الانتقال السياسي في المماحكات وتصفية الحسابات وإهمال الملفات الاقتصادية والاجتماعية وانتشار الفساد بأوجهه المختلفة.

ومحور الرهان هنا هو الرئيس قيس سعيّد الذي يقف وراء تشكيل الحكومة الجديدة، والتي حرص فيها على أن تكون بعيدة عن أحزاب ما بعد الثورة، وإن كانت تضمّ بعض العناصر لأحزاب هامشية أو اندثرت مثل نداء تونس أو حزب آفاق، لكن أغلب عناصرها إمّا محسوبون بشكل مباشر على الرئيس ومحيطه، وإمّا كفاءات من الإدارة التونسية.

الأقرب أن حكومة المشيشي ستكون تحت رحمة خيار المغالبة الذي حسم به الرئيس سعيّد صراعه مع الأحزاب حين همّشها في المشاورات الأولى بأن اختار شخصية لم ترد في مقترحاتها، وثانية حين استدعاها المشيشي صوريا وجلس إليها دون أن يأخذ بمقترحاتها أو يضع في حسبانها بعض “خطوطها الحمراء”.

ويوم 1 سبتمبر ستكون الحكومة، التي ولدت على أنقاض الأحزاب وارتباطاتها، تحت رحمة هذه الأحزاب وكتلها وتحالفاتها الجديدة. ورغم أن التوجه الغالب هو لمنح الحكومة الثقة إلا أن فرضية إسقاطها قائمة خاصة في ضوء تراجع التيار الديمقراطي (22 نائبا) عن مسار التحالف مع الرئيس سعيّد ولحاقه بكتلة تفوق المئة نائب تتشكل من النهضة وحلفائها، وهو ما قد يقود البلاد إلى أزمة سياسية معقدة وحالة من الفراغ السياسي قد تطول لأشهر.

ورغم أن أنصار الرئيس سعيّد يقولون إن إسقاط الحكومة يخدمهم إذ يتيح له حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات مبكرة ستقود بالتأكيد إلى خروج أغلب النواب الحاليين الذين وصلوا إلى المجلس بأصوات محدودة عبر قانون انتخابي عجيب، ويتيح حضورا قويا لأنصار “الشعب يريد”، وهو شعار قيس سعيّد خلال حملته الانتخابية.

قد تكون هذه الفرضية ممكنة، لكن لها كلفة سياسية كبيرة على البلاد التي لم تعد تتحمل المزيد من خسارة الوقت، وعلى الرئيس نفسه الذي سيصبح عنصر تأزيم بعد أن انتخبه الناس ليخرج تونس من أزمتها ويقطع مع المناورات السياسية ومع ألعاب السياسيين الذين يضعون مصالح أحزابهم وكتلهم أولوية في أيّ خيارات.

وخلافا لما يردده البعض، فإن حل البرلمان يتيح للرئيس أن يدير الحالة السياسية في البلاد بالمراسيم المختلفة، لكن لا يسمح له أن يصدر مراسيم تمس من القانون الانتخابي، الذي يبقى البرلمان وحده المكلف بتعديله، وهو ما يعني آليا انتخابات بنفس الشروط الحالية وبرلمانا جديدا شبيها بما هو قائم من حيث الوجود القوي للنهضة وحلفائها، فضلا عن استمرار صعود شخصيات مستقلة أو تحت يافطات فضفاضة وفق مسوّغ الولاءات الشخصية والعائلية والمناطقية من السهل استقطابها في التكتلات البرلمانية، واستمرار “السياحة الحزبية” وتأثير المال الفاسد.

كما أن لا أحد يضمن أن يشكل أنصار قيس سعيّد الكتلة الأكبر في البرلمان القادم، ذلك أن إجراء الانتخابات المبكرة سيرفع من نسبة المقاطعين للانتخابات من الفئات غير الحزبية، وهي التي دعمت سعيّد بشكل رئيسي في انتخابات أكتوبر الماضي. يضاف إلى ذلك خروج أنصار الأحزاب من حساب جمهور سعيّد وهم يمثلون ثقلا رئيسيا ساعد في حسم فوزه تحت شعار “التصويت المفيد” بهدف قطع الطريق أمام صعود نبيل القروي، رجل الأعمال والإعلام ورئيس حزب “قلب تونس”.

والنتيجة، فإن حل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة هو مغامرة سياسية ستأكل بالتأكيد من رصيد قيس سعيّد كما من رصيد الأحزاب، لكن الأخطر هو توسيع الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها البلاد خاصة مع عودة قوية لوباء كورونا وغياب أيّ استعداد لها بسبب استغراق الحكومة المستقيلة في اللعبة السياسية وتركيز رئيسها إلياس الفخفاخ على مسار تصفية الحساب مع الخصوم وإغراق المؤسسات بالتعيينات.

وستدفع مغامرة إعادة الانتخابات، أيّا كانت مسوّغاتها السياسية، إلى خسارة الدعم الخارجي لتونس خاصة من المؤسسات المالية الدولية التي تنظر بارتياب إلى أداء حكومات ما بعد 2011 بسبب تبديد القروض المختلفة في شراء السلم الاجتماعي واسترضاء النقابات، فضلا عن شيوع الفساد على مستوى واسع، فكيف يمكنها أن تضخ أموالا جديدة لإنفاقها في المغالبة السياسية.

ومنطقيا ستمر حكومة المشيشي، لكنها ستجد نفسها في مواجهة مع معارضة قوية في البرلمان تكبس على أنفاسها وتمنعها من تمرير القوانين التي تريدها. لكن المشكلة الكبرى أمام هذه الحكومة هو غياب البرنامج، فإلى الآن برنامجها الوحيد هو هزيمة الأحزاب وإخراجها من إدارة الشأن العام.

لكن ماذا ستفعل لمعالجة مخلفات عشر سنوات من الفوضى خاصة ما تعلق بزيادة منسوب الإنفاق وغياب المداخيل في ظل تعطيل إنتاج الفوسفات والنفط بسبب الإضرابات والاحتجاجات وضرورة تنفيذ تعهدات سابقة بانتدابات عشوائية في قطاعات هامشية مثل الحضائر والبيئة، خاصة مع تهاوي هيبة الدولة وسيطرة النقابات.

ربما تنجح علاقات الرئيس سعيّد بالاتحاد العام التونسي للشغل في إحداث انفراجة زمنية قد تصل إلى العامين تتوقف فيها الإضرابات والضغوط من أجل الزيادات، لكنها لن تحل المشكلة طالما أن الدولة مطالبة بالتقشف ومراجعة اتفاقيات زيادة الرواتب والعلاوات، التي تمت بشكل عشوائي وعبثي، فضلا عن تسريح الآلاف من الموظفين، وهو أمر قد لا تقبل به قيادة الاتحاد التي تعيش على صفيح ساخن بسبب مساعيها لتعديل الفصل 20 من القانون الداخلي بما يتيح لها البقاء لفترة جديدة على رأس الاتحاد، وهي خطوة تلقى معارضة واسعة.

لا خيار أمام الطبقة السياسية، وخاصة الرئيس سعيّد وقيادات الأحزاب البرلمانية، من التخلي عن المغالبة، والعودة إلى الحوار، وعدم تفويت فرصة الدعوات إلى مؤتمر للحوار الوطني شبيه بما جرى في 2013، وهي دعوة ذكية ومناسبة لنزع فتيل أزمة قد تطول وتخرج عن السيطرة وتقود البلاد إلى وضع معقد.

 

 

 

 

الأوبزرفر العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى