زمن فراغ الزعامات وموت الإيديولوجيات

محمد الورواري

الأزمة الأخيرة التي ضربت العالم متمثلة بفايروس كورونا أزاحت كثيرا من المفاهيم التي ترسخت في الأذهان منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وبداية ما أطلق عليه العصر الأوروبي الذي حسب اعتقادي الشخصي استمر حتى نهاية الحرب الباردة وتفكيك الاتحاد السوفيتي في نهاية الثمانينات وبداية التسعينيات.

لأنه منذ بداية التسعينيات وحتى الآن يمكن أن نؤكد أن تلك الفترة هي بمثابة الزمن الأمريكي بامتياز .

ويمكن أيضا أن نقسم هذا الزمن الأمريكي إلى مرحلتين:

المرحلة التي بدأت منذ 1990 واستمرت حتى 2001 وتحديدا 11 سبتمبر تاريخ ضرب برجي التجارة، فتلك العشرية الأمريكية حملت بصمات  فوكوياما صاحب كتاب “نهاية التاريخ والإنسان الأخير” وفيها تم فعلا تطبيق أفكاره بدقة شديدة.

تم فيها نشر الأفكار الليبرالية الرأسمالية واقتصاد السوق.

في هذه الحقبة، أشار  فوكوياما إلى أن التجربة الغربية التي امتدت على مدار ما يزيد عن مئتي عاما منذ الثورة الفرنسية وما بعدها، قد تأكد  موتها وفشلها في أن تكون هي النموذج  الأصلح لديمومة الإنسانية والعالم .

بالتالي أن الأوان لأن نقدم نموذجا آخر يكون هو نهاية التاريخ هو النموذج الأصلح، من هنا جاء التفكير في الليبرالية والرأسمالية واقتصاد السوق والديمقراطية وجميعها  قيم عولمية  تحدثت في مقال سابق عنها.

يمكن القول إن مفاهيم “فوكويانا نجحت فعلا خلال العشرة أعوام التي سبقت ” 11/9 /2001 .

لكن منذ 2001 وحتى 2009، حيث تولى باراك أوباما، رئاسة أمريكا، هي حقبة مختلفة تماما، زمن أمريكي ببصمة “صاموئيل هانتجتون” زمن الصراع والصدام، فتلك العشرية هي زمن تطبيق أفكار صاموئيل هانتنجتون بامتياز، فيها تم غزو أفغانستان في أكتوبر 2001 بعد شهر واحد من أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وفهي تم غزو العراق في 2003 .

وفيها تكرست نظرية الإسلاموفوبيا، باعتبار الإسلام هو العدو البديل للشيوعية التي سقطت مع تفكك الاتحاد السوفيتي .

هنا دار صراع آخر موازي للصراع العسكري الذي أعلنته أمريكا وهو صراع الأفكار .

خرجت جمل ومصطلحات من بوش الابن “مثل الحرب المقدسة، وغيرها تعيد إلى الأذهان أفكار العصور الصليبية بكل شرورها .

 المرحة الثانية، هي التي بدأت منذ 2009 حتى 2020 التاريخ الذي نحن فيه الآن يمكن القول إن تلك الحقبة هي حقبة الخروج من أفكار “فوكوياما “ومن أفكار أستاذه “هانتجتنون ” وهي حقبة إعادة تصحيح الصورة الأمريكية المهترئة عالميا، وقد أطلقت عليها في مقالات سابقة  “حقبة محاولة إعادة القيم الأمريكية”.

هنا نتذكر الكلمة التي ألقاها “باراك أوباما” في حفل تتويجه رئيسا لأمريكا وهو يستلم الرئاسة من بوش الابن، حين قال “نسعى لإعادة القيم الأمريكية المفقودة “.

وأيضا عمل على تأكيد هذا في خطابه الشهير في ” جامعة القاهرة في سبتمبر 2009 كان  خطابا موجها إلى العالم الإسلامي وراح يقدم أفكارا مخالفة تماما لأفكار ” بوش الابن “، ركز فيها على مفهوم الشراكة والمصلحة وتبادل الثقافات لا تصادمها .

البعض وأنا منهم يرون أن تغير أفكار  ” أوباما ” ومن خلفه حزبه السياسي ” يعود إلى تغير أفكار المنظرين لسياسة المحافظين الجدد  وأقصد هنا المنظرين فكريا خصوصا فوكوياما .

فوكوياما في عام 2006 أصدر كتابا كان بمثابة زلزال للمحافظين الجدد، هو كتاب “أمريكا في مفترق طرق، الديمقراطية والقوة ميراث المحافظين الجدد”

هذا الكتاب تراجع فيه “فوكوياما عن أفكاره التي طرحها في مؤلفه الشهير ” نهاية التاريخ والإنسان الأخير ” الذي نشره في بداية التسعينيات والذي اعتبر “كتالوج” سياسة بوش الابن بل والسياسة الأمريكية التي انطلقت منها فكرة التدخل واحتلال الدول والصدام والصراع .

يحكي ” فوكوياما ” أن  لحظة التغير التي ولدت لديه صدمة شعر خلالها بالعار حين دُعي على حفل عشاء أقامه المحافظون الجدد وقام أحد الصقور بإلقاء كلمته وفيها تحدث عن كم المجازر التي وقعت في العراق، الكل يصفق وهم يتبادلون كؤوس الشراب، ويلتهمون الطعام كأنهم يلتهمون جثث العراقيين القتلى .

ذلك المشهد هو الذي زلزل فوكوياما “وجعله يشعر بالعار من أفكاره، تلك الأفكار التي اتخذها صقور المحافظين الجدد، غطاء شرعيا فكريا لسياساتهم التوسعية الاستعمارية القاتلة، وقتها قرر ” فوكوياما ” أن ينزع عنهم هذا الغطاء الفكري والشرعي، بل ينتقدهم صراحة،  انطلاقا من احتلالهم للعراق واحتلالهم لأفغانستان .

وبالتالي نسف فكرة ” الحرب الوقائية التي لطالما روج لها المحافظون الجدد، لأنها حتى لو بدت وقائية فإنها انتهت إلى حرب عدوانية استعمارية إمبريالية دموية وحشية .

إن فكرة التدخل الحميد ضد الأنظمة الفاشية الديكتاتورية التي تعادي الديمقراطية انتهت إلى مزيد من الأنظمة الأكثر فاشية ودموية، وإنه ليس من حق دولة أن ترفع شعار التدخل الحميد في سيادة دول أخرى تحت أي ذريعة،

بالتالي يرى أن  أفكار عهد المحافظين الجدد لابد من نسفها  وإعادة تأسيسها من جديد .

من هنا بدأ “باراك أوباما” وخلال الثمانية أعوام أيام حكمه  العمل على ما اعتقده ” حقبة القيم الأمريكية ” لكن وبعد الثمانية أعوام اكتشف أنه ارتكب أخطاء كبيرة، انتهت إلى ما يمكن اعتبارها جرائم في المنطقة العربية.

في المحصلة ونحن في نهاية الثلاثين عاما التي تمثل الزمن الأمريكي بامتياز ” والتي بدأت منذ 1990 وحتى 2020 ما نحن فيه الآن .

كيف يمكن أن نتصور النموذج السياسي والاقتصادي والفكري الذي سيتناسب مع ما أحدثه فايروس كرونا” في النظام العالمي .

فليست أفكار فوكوياما الجديدة ولا غيره تصلح لإدارة العالم بعد كورونا .

 ولا حتى ما يؤسس له الصينيون من طفرة تقنية تجارية تجعلهم يديرون العالم من وراء ستار .

ولا حتى الارتباك الأوروبي الذي قد ينتهي بتفكيك مظلتهم الكبرى التي يدعون الاحتماء بها وهي الاتحاد الأوروبي .

كل الذين اعتدنا منهم أن يقدموا حلولا ونماذج ومبادرات لقيادة العالم هم الآن عاجزون عن كل شيء .

نحن الآن نعيش زمن فراغ الزعامات بامتياز، وفراغ الفاعل السياسي والفاعل الاقتصادي

سيعود العالم بعد كورونا كما ولدته أمه، صفحة بيضاء يحتاج من يعيد الكتابة عليها بلغته هو، أيا كان الذي سيكون له سلطة السيطرة والكتابة  صينيا أو أمريكا  أو أوروبيا.

لقد اثبتت أزمة 2020، أن ال200 عام الماضية والتي تصارعت الزعامة فيها بين الأمريكيين والروس ومن قبلهم الأوروبيين في ادعاء نشر نماذج لحكم العالم لم تكن صالحة لأن تكون هي النماذج الدائمة .

لأنه وببساطة ليس هناك نموذج ممكن أن يدوم، وأن ما طرحه الفيلسوف الألماني الشهير” هيجل ” حول نهاية التاريخ ” وبعده ” فوكوياما  والإنسان الأخير .

تأكد أنه ليس هناك إنسان أخير يتسيد حكم العالم، وليس هناك نموذج يمكن أن يكون دائما وصالحا لكل زمان ومكان، لأن تلك النماذج ببساطة هي من إبداع العقول البشرية وليست أديانا، ولا يوجد عقل بشري يمكن أن يتعامل مع معطيات مستقبلية لم يعشها ولم يعرف تفاصيلها .

وبالتالي كل الإيديولوجيات من الماركسية والشيوعية والرأسمالية والليبرالية  الديمقراطية وغيرها كلها وقفت عاجزة أمام تداعيات فايروس  كورونا.

ليست القضية في مجرد فايروس وإنما تداعياته، وأهم تداعياته أن جميع الإيديولوجيات أفرطت في القوة والتسليح والتقنية وحماية المجتمعات من العدو الخارجي ونسيت الإنسان.

نسيت أهم عنصر في الكون وهو الإنسان، اكتشفوا أنهم عراة أمام الفيروس وأن الأنظمة الصحية هي أنظمة آيلة للسقوط .

لقد كانت محصلة ال 200 عاما الماضية صفرا أمام حماية الإنسان الأوروبي أو الأمريكي .

لقد امتلأت المخازن بالأسلحة وانتقلوا  إلى درجات من التطور التقني لكن لم يجدوا كمامات ولا أجهزة تنفس .

النظام العالمي القادم سيكون نظاما إنسانيا بامتياز

اسألوا عن إنسان المستقبل يمكن لكم أن تعرفوا ملامح النظام العالمي الجديد .

 

الأوبزرفر العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى