ستارٌ يُسْدَل على حقبة الإسلاميّين

عبد الإله بلقزيز

بخروج حركة «النّهضة» من السّلطة في تونس مع مَن خرج من حلفاء وشركاء، عقب قرارات رئيس الجمهوريّة بحلّ الحكومة وتعطيل عمل البرلمان في 25 يوليو 2021.

وبخروج  «حزب العدالة والتّنميّة» المغربيّ من الحكومة، عقب نتائج انتخابات 8 سبتمبر 2021 التّشريعيّة التي فَقَد فيها  الحزب مائةً واثنيْ عشر مقعداً في البرلمان، يكون السّتار قد أُسدِل على مرحلةٍ سياسيّة وقعت مقاليدُ الحكم في قسمٍ من البلدان العربيّة فيها في قبضة الإسلاميّين، وخاصّةً حركتهم الأمّ: حركة «الإخوان المسلمين».

قبل الأفول السّياسيّ لـِ  «الإسلام الحزبيّ» في المغرب العربيّ بسنوات ثمان، خرجت جماعة  «الإخوان» من السّلطة في مصر، وسقط نظامُها السّياسيّ الذي أقامته بعد «ثورة» 25 يناير 2011. ولم يكنِ الذي أسقطه سوى الشّعب المصريّ نفسه (الذي صوّتت قطاعات عريضة منه لصالح الجماعة ومرشّحها للرّئاسة سابقاً)؛ وذلك في انتفاضته الكبرى في 30 يونيو 2013، قبل أن تجتمع أركان المجتمع السّياسيّ والمجتمع المدنيّ – في 3 يوليو 2013 (المعارضة، الأزهر، الكنيسة القبطيّة، حركة «تمرّد»، المنظّمات النّسائيّة، القوّات المسلّحة) – لتعلن إزاحة محمّد مرسي – رسميّاً – من الرّئاسة وتنصيب عدلي منصور – رئيس المحكمة الدّستوريّة السّابق – رئيساً مؤقّتاً للجمهوريّة.

في الأثناء، كانت قبضة «الإخوان» على باقي «الثّورات» العربيّة، وعلى مؤسّساتها  «التّمثيليّة» – المصنوعة والمدعومة من خارج – ترتخي، بالتّدريج، ثمّ تتداعى سلطتُها وصولاً إلى الانفراط الكامل («المجلس الوطنيّ اللّيبيّ»،  «المجلس الوطنيّ السّوريّ»…)؛ الانفراط الذي لم تنفع معه تغذياتٌ سياسيّة وماليّة خارجيّة من قبيل تلك التي قدّمتْها مؤتمرات  «أصدقاء سوريّة»، وغيرها من الصّيغ التي تبدَّت، في مراحلَ أخيرة ويائسة منها، وكأنّها أشبه ما تكون بمبادرات إنقاذية من نوع التّنفُّس الاصطناعيّ المضخوخ في جسمٍ خِلْوٍ من فُرص الحياة.

ولم تكن تشكيلاتُها العسكريّة أفضل حالاً من نظيرتها السّياسيّة، حتّى لا نقول إنّها ظلّت أسوأ وأردأ؛ إذ بمقدار ما أمسكتِ الجماعةُ بخناق أُطُر التّحالف السّياسيّ التي كانت طرفاً رئيساً في إقامتها، فسيطرت وصادرتِ القرار وأحكمتِ القبضة على المال – كما في مِصْرَ وتونسَ وليبيا وسوريّة – ارتضت، في مؤسّسات القتال، أن تكون ذيلاً  تابعاً  لتشكيلات «داعش» و«القاعدة» ونظيراتها من التي خرج قادتُها وأمراؤُها، يوماً، من رحم الجماعة منشقّين. ولقد تبخَّر دورُها العسكريّ ذاك حتّى قبل أن تَلْقَى «القاعدة» و«داعش» الضّربة القاصمة في سوريّة ومصرَ وليبيا؛ على مثال ما حصل لجيشها «الحرّ» في سوريّة، وما حصل لتنظيمها المسلّح في مصر حين خرج للعلن بعد أحداث  «ميدان رابعة» وسقوط نظام محمّد مرسي.

ما الذي أخذ  جماعة  «الإخوان» إلى هذه النّهاية السّياسيّة، بعد أن توفّرت لها أسبابُ الاستيلاء والتّمكّن ومُدّت بموارد القوّة والتّغذيّة من خارج؟ لِمَ أخرجتْها الشّعوب من السّلطة سريعاً: بالانتفاض على نظامها السّياسيّ، كما في مصر، أو بالكبح الدّستوريّ لجِماح تسلُّطيّتها، كما في تونس، أو  بمعاقبة النّاخبين لها، معاقبةً مبرِّحة، كما في المغرب؟

 أسبابٌ ثلاثة، على الأقلّ، تَكْمَن خلف إخفاق الإسلاميّين؛

أوّلها عدم درايتهم بشؤون الحكم وإدارة الدّولة. رَبِيَتْ قوى «الإسلام الحزبيّ» على العَمل الدّعويّ والتّعبويّ والتّحشيديّ وارتاضَت عليه الارتياضَ كلَّه، حتّى بات ثقافتَها العميقة. وحين وجدت نفسَها، فجأةً، في السّلطة افتقرت إلى الخبرة التي تسوِّغ لها إدارة الشّؤون العامّة، وعدمت ما يكفي من الأطر المتخصّصة في مسائل التّنميّة الاقتصاديّة والاجتماعيّة والبيئة والدّفاع والسّياسة الخارجيّة.  وكانت النّتيجة ارتكاباتُها التي لا تُحصى في ميدان السّياسات العامّة التي خلطت فيها بين مسؤوليّتها في الدّولة وهويّتها كجماعة، لِتُغَلِّب مصالح الجماعة على المصلحة العامّة للدّولة (الإساءة ـ مثلاً، لعلاقة الدّولة في مصر وتونس والمغرب بغيرها من الدّول التي كانت تشتبك سلطاتُها مع إرهاب الجماعات الإسلاميّة؛ حيث وقف الإسلاميّون مع هذه الجماعات ضدّ تلك الدّول!).

وثانيها منزِعُها الإقصائيّ الاستبعاديّ في العلاقة  بــ  «حلفائها» في الدّاخل. رفضت الجماعة تشكيل حكومة وطنيّة في مصر يأتلف فيها الشّركاء في «ثورة» 25 يناير، بل رفضت مشاركة حتّى حليفها الأقرب: التّيّار السّلفيّ! أمّا «النّهضة» في تونس فمارست إقصاء أكثر القوى تمثيلاً فيما اكتفت بإحاطة نفسها بحزبٍ «علمانيّ» صغير، وبرئيسٍ شكليّ لا حيثيّة تمثيليّة له، لكي تحكم في الفترة الانتقاليّة قبل أن يزاحمها حزب  «نداء تونس» على التّمثيل ويتقاسم معها السّلطة. ولقد أفقرها منزِعُها الإقصائيّ والانفراديّ من الحلفاء، بل ألَّب عليها هؤلاء ودفعهم إلى معارضة حكمها والانضمام إلى قوى المجتمع التي أخرجتْها من السّلطة سلميّاً وسياسيّاً.

أمّا ثالثُها فپراغماتيّتُها الفاقعة التي بلغت نِصاباً اختلطت فيه الحدود بينها والانتهازيّة. لقد اتّخذت من الإجراءات السّياسيّة في السّلطة ما تساءل الرّأي العامّ، أحياناً، عمّا إذا كان ذلك يجوز لإسلاميّين أن يأتوه (مثلاً: إجازة حكومة «العدالة والتّنميّة»  في المغرب لقرار يُقَنّن استخدام وزراعة القنّب الهنديّ)؛ مثلما تحالفت مع أحزاب  يقف على رأسها رموز الفساد المتابَعون من القضاء، من أجل تأمين غالبيّة نيابيّة وتشكيل حكومة، كما حصل في تونس! ولقد أفقدتْها هذه الپراغماتيّة المنفلِتة من كلِّ عِقالٍ سياسيّ وأخلاقيّ رصيدها الشّعبيّ، بل قادت إلى ازْورار قاعدةٍ حزبيّة عنها، مثلما أوقعتْها في تناقضات وخلافات داخليّة حادّة.

ولقد اجتمعت هذه الأسباب الثّلاثة وغيرها لإضعاف اندفاعة قوى «الإسلام الحزبيّ»، وجماعة «الإخوان» تحديداً، فأدخلتْها في طوْرٍ من التّناقضات والانحدار السّياسيّ، ممّا عجَّل برحيلها… ولكن بعد أن أكلتِ الأخضرَ واليابس وأَقْحَلَتِ الحياة السّياسيّة وأخذتْ من مجتمعاتنا القُلَّ والكُثر…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى