سياسة تداعيات مكلفة لإقالة بولتون على السلوك التفاوضي الإيراني

د. طارق فهمي

جاءت إقالة مستشار الأمن القومي في توقيت له دلالاته والتي ستنعكس بالضرورة على مسار التفاوض مع الجانب الإيراني في الفترة المقبلة حيث نقلت الإقالة وتداعياتها رسالة مباشرة من البيت الأبيض لإيران بتبني خيار التهدئة وتثبيت سياسة الوضع الراهن، وأن الرئيس ترامب لا يريد مواجهات عسكرية مع إيران إلى حين اتضاح الصورة في المشهد الإيراني الداخلي، مع العمل على تهميش دور التيار المتشدد في إدارة ترامب والساعي للتصعيد في مواجهة إيران، وفي المقابل سيصعد دور التيار المعتدل والذي يعمل على رأسه الرئيس ترامب شخصيا، ولحين إجراء الانتخابات الرئاسية وإن كان متوقعا أن يفهم الجانب الإيراني الرسالة الأمريكية خطأ في ظل المناورات الإيرانية.

ومن غير المتوقع أن يقدم الإيرانيون على المفاوضات مع إدارة ترامب في المدى المنظور بل سيتم تسويق إقالة بولتون إيرانيا، وسيكسب من الإقالة شخصيات مثل الرئيس حسن روحاني ووزير الخارجية جواد ظريف، كما سيؤثر ذلك على جهود الوسيط الفرنسي في الوقت الحالي. والسؤال المطروح هل كانت هناك مفاوضات سرية بين الجانبين ورفض بولتون جدول أعمالها ونتائجها التي جرت بدعم فرنسي خاصة وأن وجود ظريف في قمة الـ7 حملت رسائل ربما ستتضح لاحقا بصرف النظر عن عقد لقاء ترامب/روحاني في اجتماعات الجمعية العامة.

وبرغم كل هذه التطورات على الجانب الأمريكي فإن إيران ستظل تراوغ في محيطها السياسي والاستراتيجي اعتمادا على التباين في وجهات النظر الأوروبية الأمريكية اللافتة، وعدم وجود جدول أعمال متفق عليه في التعامل مع الجانب الإيراني الذي ما زال يمارس سياساته، واستراتيجياته في تطويل أمد الأزمة الراهنة في الخليج، والسعي لربط كل التطورات في الملف الإيراني بسياسة الحزمة الواحدة وليس من خلال عناصر محددة يمكن للدول الأوروبية، والولايات المتحدة التعامل معها بل تعمد الإيرانيون الانتقال من إدارة الأزمة ورد الفعل إلى العودة لسياسة القرصنة الملاحية في الخليج مجددا.

تعلم إيران أن المرور العابر في الخليج هو في الأصل حق لكل الدول ، وليس مجرد رخصة تمنحها الدولة المشاطئة إيران، وبالتالي إذا حجبت هذه الدولة أو غيرها مسؤولية الممارسة الفعلية فإن عليها أن تراجع ذلك دوليا، ويحق للمجتمع الدولي التدخل ، ومع ذلك تتقاعس الولايات المتحدة ودول الترويكا الثلاثية عن القيام بدورها اكتفاء بطرح أفكار متعلقة بأمن الخليج مع السعي لإنشاء تحالف دولي لمواجهة التهديدات الإيرانية، وهو أمر سيأخذ وقتا في تشكيله في ظل تباين الرؤى وتجاذب المصالح، الأمر الذي استثمرته إيران جيدا واستفادت من تبعاته وفي ظل رهانها على استمرار التباين داخل الإدارة الأمريكية حول التعامل المستقبلي، وما استقالة بولتون إلا بداية الغيث .

إن إيران ومنذ سنوات طويلة تناور في التعامل مع المرور البحري استثمارا لما يجري، وتأكيد مسؤوليتها في توفير الأمن في الخليج، وهو ما لم يتم بل بالعكس تعمدت تهديد أمن الخليج باستمرار ملاحقة الناقلات وقوارب الصيد، كما لم تحل بعد مشكلة الناقلة البريطانية، وبدأت في تشعيب عناصر الأزمة، وهو أمر يشير جليا لعدم وجود رغبة إيرانية في التوصل لخيارات وسط بل بالعكس تبني خيارات التصعيد كحل أساسي لتأكيد امتلاكها أوراق ضغط.

ويلاحظ أن إيران انتقلت من التعامل في مشكلات الناقلات لتحقيق مكاسب في الملف النووي الإيراني والبدء تدريجيا في عدم الالتزام بنصوص الاتفاق النووي في توقيت تزعم فيه التزامها مع الدول الأوروبية باستمرار الاتفاق، ولعل ما يؤكد ذلك النهج الإيراني الذي تبنته إزاء مجمل بنود الاتفاق مما يؤكد أن إيران -التي تستقوي بالجانب الفرنسي وتدفعه للاستمرار في الوساطة لتقريب وجهات النظر مع الإدارة الأمريكية- هي نفسها التي تنتهك ما تبقى من نصوص الاتفاق.

وبالتالي فلن يكون أمام الأطراف الأوروبية سوى مراجعة مواقفها وتوجهاتها الراهنة، والعمل بمنطق واقعي، والانضمام للموقف الأمريكي في التعامل مع الحالة الإيرانية شريطة تغيير الإدارة الأمريكية آليات تفاوضها وصبرها المبالغ فيه للتعامل مع إيران، والابتعاد عن أنصاف الخيارات بالتأكيد على أن هناك فرصة لاستيعاب إيران والدخول في مرحلة جديدة من المفاوضات مع ضرورة قيام الجانب الأمريكي بمراجعة مواقفه مع تأكيد أن أي تقاعس أمريكي سيدفع لمزيد من التصعيد الإيراني، وانفتاح المشهد على سيناريوهات سياسية واستراتيجية جديدة، أخطرها استمرار تهديد الملاحة البحرية في الخليج واعتبار السلوك الإيراني سلوكا اعتياديا مما سيحق لها وقف الناقلات، وتفتيشها ومراجعة موقفها.

ومن ثم فإن على الدول الأوروبية التوقف الحذر لمراجعة مجمل مواقفها تجاه إيران، والانضمام الحقيقي للموقف الأمريكي بشرط العمل على إعادة تقييم المواقف الدولية تجاه إيران بداية من خطوة إنشاء التحالف البحري، أو العمل على بناء قوة بحرية لمواجهة التهديدات الإيرانية أو الاحتكام لمقررات منظمة الملاحة البحرية الأممية، ونصوص جنيف 1958، واتفاقية أعلى البحار التي أقرتها الأمم المتحدة عام 1982، وبما يدفع بقوة للتعامل الجاد مع السلوك الإيراني المناور.. مطلوب وقفة دولية جادة تجاه إيران بدلا من هذه السياسات العرجاء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى