صراع الثروة والسلاح في رئاسيات ليبيا

الحبيب الأسود

المشهد الانتخابي في ليبيا لا يترك مجالا للتفاؤل بمستقبل أفضل على المدى المنظور. هناك حاليا فاعلان أساسيان في مجريات الأحداث وهما القوة المسلحة على الأرض والمال السياسي واستغلال النفوذ، والأسبقية بالطبع لمن يمتلك الثروة والسلطة والسلاح، أما أصحاب النوايا الحسنة فالظرف غير ملائم لتطلعاتهم، ولاسيما أن شعارات الحرية والديمقراطية والتعددية والنزاهة والشفافية ووعود الأمم المتحدة والمجتمع الدولي ليست سوى سلّة من الأوهام، التي لا مجال لتصريفها على أرض الواقع.

كل ما يدور في ليبيا حاليا، يؤكد أن الانتخابات الرئاسية تواجه تحديات كبرى. وربما من حظ المبعوث الأممي يان كوبيتش أنه سيترك منصبه نهائيا في العاشر من ديسمبر الجاري، في حين أن المتنافسين على منصب رئيس للدولة يبدون أقرب إلى التنافس على رئاسة أقاليم أو حكم محافظات أو بلديات أو زعامة قبائل أو عشائر. أما جغرافيا ليبيا الواسعة، التي تتجاوز مساحتها مليونا و750 ألف كيلومتر مربع، لا أحد من المرشحين لرئاستها يستطيع التنقل بين حدودها ويتجول في مناطقها بحرية؛ لا حفتر يمكنه الانتقال إلى طرابلس أو مصراتة أو الزاوية أو جبل نفوسة، ولا الدبيبة يمكنه التجول في طبرق أو درنة أو بنغازي بسهولة، ولا سيف الإسلام القذافي يمكنه الخروج من مخبئه للتجول بين المدن والقرى.

ما حدث في سبها دليل على أن ما يحدث في ليبيا حاليا لا علاقة له بالحرية والديمقراطية ولا بالإرادة الشعبية، فقد تم منع المحكمة من الانعقاد للإعلان عن قرارها بشأن طلب الاستئناف الذي تقدم به سيف الإسلام القذافي، ضد الإجراء المتخذ في حقه من قبل مفوضية الانتخابات، والقاضي بإقصائه من السباق كنتيجة للضغط المسلط من قبل السلطات الحكومية، ومن قوى داخلية وخارجية ترى أن فسح المجال أمام سيف الإسلام لخوض المنافسة قد يعيد خلط الأوراق نهائيا، نظرا للقاعدة الشعبية الواسعة التي يحظى بها.

نص القانون الانتخابي على أن يتم تقديم ملفات الترشح للانتخابات الرئاسية في ثلاث إدارات إقليمية تابعة للمفوضية منتشرة في طرابلس (غرب) وبنغازي (شرق) وسبها (جنوب)، وأن يتم تقديم الطعون في محيط الإدارة التي تقدم فيها المرشح المطعون في أهليته أو أحقيته بالترشح. ولما فاجأ سيف الإسلام الجميع بتقديم ملف ترشحه في سبها، تدخل المجلس الأعلى للقضاء ليعدّل القانون بما يفسح المجال أمام أصحاب الطعون للتقدم بها حيثما يشاؤون، ولكن بعد يومين فقط تراجع المجلس، وأعاد الوضع القانوني إلى نصابه، فقد تبين له أن محاولة استغلال التعديل للطعن في ترشح حفتر أو سيف الإسلام بطرابلس ومصراتة والزاوية مثلا، سيستفيد منه الطرف المقابل في التقدم بطعون ضد المرشح عبدالحميد الدبيبة الذي يعتبر من أبرز مخالفي قانون انتخاب الرئيس.

أدرك الجميع أن الدبيبة وضع يده على كل الأجهزة القضائية والإدارية والأمنية والخدمية في غرب البلاد، واستطاع أن يستفيد من موقعه كرئيس للحكومة في استمالة الذمم والتأثير عليها بالاعتماد على مقدرات الدولة، وخلال الأشهر الماضية كان يعمل ليل نهار من أجل هدف واحد وهو الوصول إلى منصب الرئيس وتمكين اللوبي الذي يمثله من بسط نفوذه على ليبيا وثرواتها الطائلة في غياب الدستور الذي يمكن أن يحدّ من سلطاته وصلاحياته.

تقدم الدبيبة بملف ترشحه وهو مخالف للمادة 12 من القانون، حيث داس على التزاماته السابقة أمام ملتقى الحوار السياسي في جنيف، والاكتفاء بإدارة المرحلة الانتقالية والإعداد للانتخابات دون أن يترشح فيها، ولم يتخلّ عن منصبه كرئيس للحكومة قبل ثلاثة أشهر من موعد التصويت المقرر للرابع والعشرين من ديسمبر، ثم تبين لاحقا لمتابعيه الجديين أنه مخالف للقانون؛ من حيث امتلاكه لجنسية ثانية وهي جنسية دولة سانت كيتس في منطقة البحر الكاريبي، ومع ذلك لم تتجرأ مفوضية الانتخابات على استبعاده من السباق، وذكّرت المراقبين بما تم نشره قبل أسابيع من معطيات سرية عن اجتماع عقده الدبيبة مع فاعلين سياسيين واجتماعيين وميليشياويين في مسقط رأسه مصراتة أكد فيه أنه سيترشح للرئاسيات وأن لديه ترتيبات مع رئيس المفوضية عماد السايح وأنه سيفوز بمنصب الرئيس.

لم تجرؤ المفوضية كذلك على التشكيك في حق خليفة حفتر في الترشح، على الأقل بسبب الجنسية الثانية الأميركية التي يمتلكها، ولكنها استهدفت بالأساس ابن القذافي بدعوى أنه قد صدر في حقه حكم قضائي، رغم أنه ليس نهائيا كما نص على ذلك القانون، وتم نقضه من قبل المحكمة العليا قبل أشهر. وربما لا يختلف في شيء عن حكم الإعدام الصادر في حق المشير حفتر في مصراتة، من حيث أنه يعكس طبيعة الصراع على السلطة والنفوذ منذ 2011 ويكشف عن روح الثأر والتشفي والانتقام والرغبة في إقصاء الآخر المختلف.

تقدم سيف الإسلام إلى دائرة الطعون بمحكمة الاستئناف في سبها بطلب طعن في قرار المفوضية، وكان من المنتظر أن يصدر حكم بإعادته إلى السباق، كما حدث مع مرشحين آخرين. ولكن عندما أزفت لحظة الرد، قام مسلحون تابعون للجيش الذي يقوده المشير حفتر بمحاصرة المحكمة، ووصلت تهديدات مباشرة إلى القضاة، واستمر الوضع على حاله بشكل تأكد من خلاله أن حفتر لا يريد لسيف الإسلام أن ينافسه على الرئاسة، وأنه يعتبر سبها جزءا من مساحة نفوذه الشاسعة في ليبيا، فاضطرت لجنة الطعون إلى الاستقالة من مهمتها، ولم تستطع البعثة الأممية أن تستمر في تجاهلها للحادثة ولاسيما بعد خروج متظاهرين في المدينة للتعبير عن رفضهم لمحاولة السيطرة على القضاء والتأثير على أحكامه المتعلقة بالاستحقاق الانتخابي.

في طرابلس قبلت دائرة الطعون بمحكمة الاستئناف الطعنين المقدمين ضد ترشح الدبيبة، وأحدهما مقدم من وزير الداخلية السابق وصديقه وابن مدينته فتحي باشاغا، وأعلن عن قرار باستبعاده من المنافسة على منصب رئيس الدولة، ولكن جميع المؤشرات تؤكد أن هناك ترتيبات تجري من وراء الستار، وأن قرار المحكمة جزء من سيناريو تم إعداده من قبل متخصصين لإقناع الرأي العام في الداخل والخارج بأن كل شيء يسير وفق القانون واحترام القضاء وأن الدبيبة ليس استثناء، وعندما يتم الحكم من خلال الدرجة الموالية بنقض القرار الابتدائي وإعادته إلى قائمة المرشحين، سيجد من يقول إن القضاء المستقل أنصفه وأعاد إليه حقه.

هناك مسائل يبدو أنه تم الحسم فيها نهائيا، ومنها أنه من غير المسموح لسيف الإسلام القذافي خوض غمار المنافسة على منصب الرئيس، نظرا إلى خوف بقية الأطراف من فوزه الذي قد يكون مستحقا نتيجة القاعدة الشعبية الواسعة التي يحظى بها، كما أنه يبقى الطرف الثالث في المواجهة المفتوحة، ويتميز بأنه لا يمتلك قوة مسلحة على الأرض كالطرفين الآخرين، وهما الجيش في الشرق بقيادة حفتر، والميليشيات في غرب البلاد والتي من المفترض أنها تخضع للسلطة القائمة.

ومن تلك المسائل أن الدبيبة لن يتخلى عن المنافسة على منصب الرئيس، وهو سيعود حتما إلى قائمة المرشحين، وإن لم يتمكن من ذلك، فإن الانتخابات لن تجرى في موعدها المقرر للرابع والعشرين من ديسمبر، وسيجد من سيدعمه في هذا الاتجاه من القوى الداخلية والخارجية، وقد بدأت بعض الأطراف من داخل المفوضية في الترويج لمبدأ التأجيل ولو لبضعة أيام، كما أن دولا إقليمية من بينها تركيا وإيطاليا تعمل في هذا السياق.

وفي حال فوز الدبيبة، فإن الشرق سيرفضه. وفي حال فوز حفتر، فإن الغرب لن يقبل به. وليس من بينهما من يستطيع بسط نفوذ سلطته على كامل أرجاء البلاد، وسيكون من الطبيعي أن يتم تجميد الوضع على ما هو عليه، وأن يتم التخلي عن الجدول الزمني لإخلاء القوات الأجنبية والمرتزقة.

أكبر خطأ وقع فيه المجتمع الدولي هو الإصرار على تنظيم انتخابات رئاسية في بلد لا يزال ممزقا، وأغلب المرشحين للمنصب عاجزون فعليا عن التنقل في أغلب أرجاء البلاد، ومرفوضون من قوى فاعلة على الأرض. وقد كان من المفترض أن يتم التفكير أولا وقبل كل شيء في حل الميليشيات، وجمع السلاح، وتوحيد المؤسسة العسكرية، وإجلاء المسلحين الأجانب، وإعلان المصالحة الوطنية الشاملة، وجمع كل الفرقاء تحت سقف قاعدة واحدة للإعلان عن تدشين مرحلة جديدة يقبل فيها كّل منهم بما ستفرزه من قيادات سياسية وسلطات حكومية. أما المشهد الحالي فهو أقرب إلى السريالية، وكل ما سينتج عنه سيكون عبثيا يبقي على مصالح النافذين إلى مفاتيح الخزينة، مقابل استمرار تفكك الدولة ومعاناة الشعب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى