عن أوراسيا وحمولاتها الجيوسياسية

عبد الحميد توفيق

من جملة النزعات التي أيقظتها الحرب الروسية-الأوكرانية نظرية أو مفهوم “أوراسيا“.

هذا المفهوم يُطلق عليه بعض المفكرين الأمريكيين المعاصرين “الكابوس الأوراسي”.

“أوراسيا”، نظريةً أو مفهومًا، نبّه إليه عالم الجغرافيا السياسية البريطاني السير هالفورد ماكيندر عام 1904 في ورقة عمل بعنوان “المحور الجغرافي للتاريخ”، أو كما يحلو للبعض تسمية نظريته “قلب العالم”.

وملخصها أن “مَن ينجح في السيطرة على أوروبا الشرقية قد ينجح في السيطرة على قلب العالم، وعند السيطرة على القلب يمكن التحكم بالجزيرة العالمية، وعندها يكون قد سيطر بالفعل على العالم بأسره”.

بقيت أوراسيا كمفهوم جغرافي يجمع بين قارتيْ آسيا وأوروبا، عنوانا شاغلا للسياسيين ولدوائر التخطيط الاستراتيجي منذ أكثر من قرن، وشكّلت محورًا لدراسات وبحوث نخب سياسية وعلمية وثقافية، ثم تبلورت كنظريةٍ شاملة التصور، مستندةٍ إلى حقائق التاريخ والجغرافيا ومكامن القوة والضعف في تفرعاتها.

بعد الحقبة السوفييتية وتفكك كيانها الجيوسياسي، صعدت نظرية “الأوراسية” إلى دائرة اهتمام الروس بكل حمولاتها السياسية والجغرافية ومَدَياتها ومداراتها الاستراتيجية، وتبلورت كرؤية روسية على يد المفكر الروسي ألكسندر دوغين لتصبح نظيرةً للرؤية الأمريكية حول أوراسيا، والتي تجلت بأكثر صيغها النظرية شمولية على يد مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق زبيغينيو بريجنسكي في كتابه “رقعة الشطرنج الكبرى.. السيطرة الأمريكية وما يترتب عليها جيواستراتيجيا” عام 1997.

ورغم تناقض الرؤيتين الأمريكية والروسية في الصياغات والتصورات حول أوراسيا فإن منظّري الجانبين يتفقون على الأهمية الحيوية لها كمركز للعالم يكتنز ثرواتٍ بشريةً وطبيعية هائلة تؤهلها لمكانة استراتيجية لا نظير لها بسبب امتدادها الجغرافي أيضا، فأوراسيا، أي أوروبا وآسيا، تمتد من حدود أوروبا الغربية على المحيط الأطلسي حتى ضفاف الصين وروسيا على المحيط الهادي في الشرق. وفيها معظم ثروات العالم، وفيها الدولتان الأكثر سكانا، الصين والهند، وضمنها الدولة الأكبر مساحة وهي روسيا “17  مليون كيلو متر مربع”.

يقول “بريجنسكي” منظّر الأوراسية الأمريكية في كتابه إن 75% من سكان العالم يعيشون في أوراسيا، ودخلها القومي السنوي نحو 60% من الدخل العالمي، ومصادر الطاقة فيها تساوي ثلاثة أرباع موارد الطاقة الإجمالية في العالم، علاوة على أنها تضم أقوى ستة اقتصاديات في العالم، وأكثر ست دول إنفاقا على التسلح، وتضم القوى النووية المعلنة، ما عدا واحدة (ص 32).

ومن الطبيعي أن تكون هذه الأرقام قد تغيرت في عالم اليوم بفعل التغيرات في الثروة والجغرافيا والتحولات العالمية، لكن أوراسيا المتخيَّلة بمنظور “بريجنسكي” ما هي إلا خزانٌ هائل الموارد بشريا واقتصاديا وطاقويا، ومرتَعٌ لقوى عظمى، ومستودعاتٌ لسلاح متعدد الصنوف، بحيث يمكن لأي قوة تسيطر على هذه الرقعة أن تحكم العالم وتديره وفقا لمصالحها.. إنه توصيفٌ محضُ سياسي يُسقِط من حساباته الأبعاد التاريخية والثقافية والقيم المشتركة لشعوب أوراسيا، وبالتالي تطلعاتها وحساباتها الذاتية وقدرتها على توظيف مقدراتها لحماية مصالحها والدفاع عن هويتها الحضارية ومستقبلها.

أما “دوغين” فيصنّف مفهوم أوراسيا ضمن “فلسفة” تقوم على ركائز ثقافية واجتماعية وتاريخية ولغوية، مضافًا إليها الجغرافيا السياسية والعلاقات الدولية، لكنه لا يخرج عن محددات الاستقطاب التاريخي للكتلة الأوراسية، فإذا كان “بريجنسكي” يعتبرها “رقعة شطرنج كبرى” يحق لأي لاعب خوض غمار المنازلة فيها وتكون الغلبة للأكثر قوة ومهارة وبراعة، فإن “دوغين” يردّها إلى “جذور الثقافة الروسية”، نافيًا عنها الانتماء إلى أي حضارة غربية أو شرقية، بل “تتفرد بحضارتها الخاصة القائمة بنفسها، وبالتالي فهي مرجع نفسها”.

يمضي “دوغين” بعملية تأْريخٍ روسي لحِقَبها ضاربةِ الجذور في الماضي، فيعيد بذور الفكرة أو النظرية الأوراسية إلى مجموعةٍ من العلماء الروس، منهم عالم اللسانيات نيكولاي تروبسكي (1890- 1938) ومجايلوه في تلك الحقبة الزمنية وصولا إلى عام 1921 حين أصدر مجموعة من المفكرين الروس المنفيين والمهاجرين كتابهم بعنوان “النزوح إلى الشرق”، متضمنا رؤيتهم عن النظرية الأوراسية.

يقول “دوغين” في كتابه “الخلاص من الغرب.. الأوراسية: الحضارات الأرضية مقابل الحضارات البحرية والأطلسية” إن “الأوراسية هي فلسفة منفتحة وغير عقائدية، يمكن إثراؤها بمحتوى جديد من الدين والاكتشافات الاجتماعية والأنثولوجية والجغرافيا السياسية والاقتصاد والجغرافيا الوطنية والثقافة والبحث الاستراتيجي والسياسي” (ص107).

بهذا المعنى تغدو الأوراسية في فلسفة “دوغين” رؤية للعالم بمنظور سياسي-جغرافي، وتاريخي-اجتماعي، وقد عدّها “النظرية الرابعة للمجتمع الإنساني” بعد الفاشية بطبعتها النازية، ثم الليبرالية، فالماركسية.

ويرى وسيم خليل قلعجية، مؤلف كتاب “روسيا الأوراسية.. زمن الرئيس فلاديمير بوتين”، أن الأوراسية، استراتيجيًّا، “تمثل عصر الرئيس فلاديمير بوتين”.

“دوغين” يذهب أبعد من ذلك بالقول “إنها مفتاح فهم عهد بوتين وحقيقة ما يجري في روسيا اليوم”.

“بريجنسكي” في “رقعة الشطرنج الكبرى” ينبّه إلى أن الأوراسية تحولت إلى “عقيدة جذابة على نحو متزايد في روسيا لملء فراغ مرحلة ما بعد الاتحاد السوفييتي”، ويدعو الولايات المتحدة إلى “أن تبادر على نحو ثابت ومتماسك إلى تدمير الأسس الجيوبوليتيكية التي كان يتمتع بها الاتحاد السوفييتي للحؤول دون عودة روسيا إلى موقع القوّة الثانية في السياسة العالمية”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى