عن القمة الصينية الأوروبية

إميل أمين

الخميس الماضي، شهدت العاصمة الصينية بكين قمةً من نوع خاص، جمعت الأوروبيين والصينيين معًا، في توقيت يعاني العالم فيه من حالة سيولة جيو-إستراتيجية، لا سيما في ظل المشهد الأميركي المتغير من يوم إلى آخر، والقرارات التنفيذية التي يوقعها الرئيس ترمب، وتهدف في المقام الأول إلى حصار الصين حصارًا شبه مطلق، وقطع طريق القطبية الأممية عنها.

جاءت القمة كذلك في وقت لا تبدو فيه العلاقات الأوربية الأميركية في أفضل أحوالها، لا سيما في ضوء المخاوف الكبيرة من الانسحاب العسكري الأميركي من القارة الأوربية، وإعادة الانتشار في آسيا بالقرب من الصين العدو الإستراتيجي الأول والأكبر لواشنطن.

توجه القادة الأوروبيون إلى بكين في الذكرى الخمسين على إقامة العلاقات الدبلوماسية بين الجماعة الأوربية والصين، غير أن الحقيقة التي لا خلاف حولها، هي أن المزاج السائد بين الجانبين لا يبدو جيدًا بحالٍ من الأحوال.

يختلف الجانبان حول مجموعة من القضايا من التجارة إلى حقوق الإنسان، والتوقعات منخفضة لتحقيق تقدم. حتى جدولة الحدث كان تحدّيًا، حيث كان من المقرر أن يعقد في بروكسل، إلى أن رفض الرئيس الصيني شي جين بينغ الدعوة، ثم نقل الحدث إلى بكين واختصر من يومين إلى يوم واحد.

يَعِنُّ لنا أن نتساءل بدايةً هل تعرضت العلاقات الصينية–الأوروبية لأزمة ثقة بالفعل في السنوات التي أعقبت عام 2020، ولماذا هذا التوقيت تحديدًا؟

المؤكد أن العلاقات الصينية–الأوروبية تلقت لطمةً قاسيةً جدًّا في مطلع هذا العقد، من جَرَّاء تفشي فيروس كوفيد-19، والاتهامات التي وجهت مباشرة إلى الصين، كسبب رئيس للخسائر البشرية والمادية التي حلت بالقارة الأوربية.

اعتبر الأوروبيون أن النظام الشمولي الصيني، هو المسؤول الرئيس عن الأزمة، من جَرَّاء غياب المكاشفة أو المصارحة، ما فاقم الأزمة ودعا العقول الأوربية المفكرة إلى التشكيك في جدوى علاقات مستقبلية، مع قوة لوجستية، قد تضحي قطبية عما قريب، لكنها تعيش حالة من الهشاشة السياسية الداخلية.

ولعله من تناقضات القدر أن أوروبا الحذرة اليوم، في علاقتها مع الصين، مغايرة بالمطلق لأوروبا حتى حدود 2019، ذلك أن النفوذ الصيني في أوروبا حتى ذلك التوقيت، بدا مخيفًا إلى حدِّ المزعج، من جراء الشراكات التي قدر للقيادة السياسية الصينية أن تمدَّها مع دول أوروبا كبرى.

على سبيل المثال، بدت فرنسا وألمانيا في حالة غضب كبرى من إيطاليا، والسبب هو الإغراق من جانب روما في الشراكة مع بكين، إلى حدِّ “تسليم المفاتيح”، كما يقال في الأدبيات السياسية.

لكن ماذا عن النظرة الصينية للاتّحاد الأوروبي؟

في كلمته الافتتاحية للقمة في الرابع والعشرين من يوليو/ تموز الجاري، قال الرئيس الصيني شي جين بينغ إنّ أوروبا والصين يجب أن تتخذا “الخيارات الإستراتيجية الصحيحة، في مواجهة التحديات العالمية الأخيرة”.. تُرَى ما الذي كان بينغ يقصده؟

بالقطع كلماته تشير إلى المواقف الأميركية الأخيرة، لا سيما التعريفات الجمركية، التي تسببت في حالة من القلق والانزعاج في الصين وأوروبا على قدم المساواة.

غير أن علامة الاستفهام الحقيق بنا طرحها: “هل يمكن أن يثق الأوربيون في الصينيين مرة وإلى الأبد؟”.

يبدو الجواب معقَّدًا إلى أبعد حَدٍّ ومَدٍّ، ويحتاج إلى قراءة مستقلة، لكن باختصار غير مُخِلٍّ، يدرك الأوربيون تمام الإدارك، أن الحلم الأوراسي، الذي تطَلَّعَ إليه الجنرال ديغول، ذلك المُمْتَدّ ديموغرافيًّا، ثم جغرافيًّا، من المحيط الأطلسي غربًا، إلى جبال الأورال شرقا، يكاد يكون اضمحلَّ، وربما كان يمكن للصين أن تلعب فيه دورًا حاسمًا وحازمًا.

غير أن الشراكة الروسية–الصينية، لا سيما بعد أن تعاظمت خلال سنوات الأزمة الأوكرانية، تجعل الهواجس تحلق فوق رأس الأوروبيين، وبخاصة في ظل غياب واضح لحلول سلمية بين موسكو وكييف.

هل جاءت قمة بكين الأخيرة خافتة إلى حدٍّ باهتة؟

الشاهد أنه وفيما تشير بكين إلى اهتمامها بتوثيق العلاقات مع أوروبا، فإنها لا تُظهِر استعدادًا كبيرًا لتغيير مسارها بشأن القضايا الاقتصادية والتكنولوجية والأمنية الرئيسية.

تفيدنا الأرقام بأن الصين تُعَدُّ أكبر شريك تجاري للواردات وثالث أكبر شريك للصادرات من الاتحاد الأوروبي، مع أكثر من 980 مليار دولار من التجارة في السلع والخدمات في عام 2024، وعجز تجاري كبير ومتزايد باستمرار للاتحاد الأوروبي.

من هنا يفهم المرء لماذا أنه وبدءا من عام 2019، تَبَنَّتْ المفوضية الأوروبية موقفًا أكثر حزمًا، واصفةً الصين بأنها “منافس نظاميّ”، و”منافس اقتصاديّ”، و”شريك تفاوضيٌّ”.

وبسبب إحباطه من افتقار الصين إلى المعاملة بالمثل وممارساتها التجارية غير العادلة، تخطى الاتّحاد الأوروبي حواره الاقتصادي والتجاري رفيع المستوى المعتاد في يونيو الماضي، كما تم إلغاء اليوم الثاني من القمة القادمة، مما يعكس التوترات المتزايدة والنزاعات التي لم يَتِمّ حَلُّها.

ولعل الذين تابعوا وقائع القمة التي جرت في قاعة الشعب الكبرى في بكين، قد لاحظوا لغة الجسد لمسؤولة الاتحاد الأوروبي “فون دير لاين”، وكيف أنها بدت صارمة ومتجهة وقد ركزت على الخلافات التجارية، وفي حديثها الموجه إلى الرئيس الصيني، أظهرت مكنونات صدرها بقولها إنه مع “تعميق التعاون، تعمقت الاختلالات”، مضيفةً: “لقد وصلنا إلى نقطة تحول”، وحَثَّتْ الصين على التقدم بحلول حقيقية.

كانت فون دير لاين، تشير وبوضوح إلى حالة العجز التجاري للاتحاد الأوروبي مع الصين، والذي تضخم إلى مستوى تاريخي بلغ 305.8 مليار يورو العام الماضي.

يَعِنُّ لنا هنا أن نتساءل: “هل العلاقات الصينية–الأوروبية قبل هذه القمة وبعدها، مرشحة للتحسن أم أن هناك عقبات في الطريق؟”.

قطعًا، هناك الكثير من الأزمات التي تواجه الصينيين، وفي المقدمة منها تصاعُدُ المَدِّ اليمينيّ الأوربي بصورة واضحة للغاية، الأمر الذي يدعو إلى إقامة الجدران العازلة، لا مَدّ الجسور إلى الجانب الآخر من النهر، وربما هذا ما ألمح إليه الرئيس الصيني بقوله: إن تحسين القدرة التنافسية لا يمكن أن يعتمد على بناء الجدران والحصون”. وأضاف: “فكّ الارتباط وكسر السلاسل لن يؤدي إلا إلى العزلة”.

أمّا الأمر الثاني الذي يمثل منظورًا أوربيًّا معطّلًا للعلاقات مع الصين فيتمثل في أزمة المناخ العالمي، ذلك أنه لم يَعُدْ سرًّا أن الصين وفي سباقها الحقيقي السريع والمريع مع الولايات المتحدة الأميركية، لا تلتفت كثيرًا لقصة التغيرات المناخية، بل يهمها صافي أعمالها وناتجها القومي، ومدّ أذرع صادراتها إلى بقية أرجاء العالم.

وفي العقبات، تبدو الأحلام الصينية في الشراكة ناحية القطب الشمالي، فعلى الرغم من أنها ليست دولة مشاطئة مثل أميركا وكندا روسيا، بالإضافة إلى النرويج والدنمارك، فإن الصين تقول إن سكانها يمثلون خمس سكان العالم، وبالتالي يحق لهم خُمْسُ ثروات القطب الشمالي، فيما وراء المائتَيْ ميل بحري التي تمثل المياه الثلجية الإقليمية للدول الخمس المتقدمة، ما يجعل صراعًا صينيًّا أوروبيًّا جديدًا قد ينشأ عما قريب.

ما الذي يتبقى قبل الانصراف؟

قطعًا، الحديث يدور حول القمة الصينية-الأوربية، كنوع من أنواع المناورات للقارة العجوز مع العمّ سام، والتلويح بورقة الشراكات مع الصين، بعد أن ابتعدت روسيا كثيرًا، فهل وصلت الرسالة لسيد البيت الأبيض؟



مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى