عودة الدبلوماسية إلى الشرق الأوسط

محمد أبو الفضل

أرهقت الصراعات والنزاعات والتوترات المنتشرة في منطقة الشرق الأوسط خلال السنوات الماضية العديد من الدول الكبرى والصغرى. وسواء وصل الرئيس الأميركي جو بايدن إلى السلطة أو لم يصل كانت هذه الحقبة ستشهد تراجعا وتحل مكانها الدبلوماسية التي ظهرت ملامحها عمليا في اللقاء الأول بين بايدن والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في جنيف، الأربعاء، والذي عزز فكرة الحوار بين الجانبين.

عقب مرحلة من الفوران شهدتها المنطقة كان من الضروري أن تبدأ الأطراف المنخرطة في تفاصيلها، بشكل مباشر أو غير مباشر، الاستعداد لتبريد السخونة، فمن الصعوبة مواصلة الغليان في منطقة لدى قوى كبرى مختلفة مصالح فيها عجزت عن تحقيقها كاملة بالحرب، بل البعض بات على وشك موقف حرج من الاستنزاف المادي والمعنوي بسبب الانتشار الواسع للصراعات.

ظهرت مكونات الليونة في التعامل مع بعض الأزمات الإقليمية منذ نحو عامين، أي قبل مجيء بايدن إلى البيت الأبيض، عندما تأكدت قوى عديدة أن اتساع رقعة الحروب يمكن أن يحرق الأخضر واليابس ويفتح الطريق أمام قوى عديدة للحصول على مكاسب لم تكن تحلم بها من قبل.

بدأ يتواتر الحديث عن تسوية واجبة للأزمة السورية في جنيف، وجرى وضع بذرة للحل السياسي في ليبيا عبر مؤتمر برلين الأول، ولم يعد الوضع العراقي وهيمنة إيران عليه مريحا لعدد من القوى الإقليمية والدولية، وأخذ التضخم الذي عاشته طهران في المنطقة يثير مخاوف قوى متعددة، وأصبحت الأزمة في اليمن تدور في حلقات مفرغة وتداعياتها تمثل ضغطا على قوى رئيسية، الأمر الذي جعل الكثير من أطرافها تؤيد السير نحو الحل ودعم التوجهات الدبلوماسية.

عجزت القوى التي أيدت تغذية الصراعات في منطقة الشرق الوسط من خلال مساعدة الثورات والاحتجاجات والانتفاضات في بعض الدول عن جني مكاسب استراتيجية كبيرة، وربما هيّأت المجال لقوى مناوئة لتكبيدها خسائر باهظة، بما فرض الميل للعمل على تسكين النزاعات، وغض الطرف عن الأهداف التي جرى وضعها.

يمكن وضع المرونة الظاهرة في الخطاب التركي الإقليمي في خانة دعم الحلول الدبلوماسية، ووضع المصالحة الخليجية والمصرية مع قطر في السياق ذاته.

أخفقت الولايات المتحدة في تحقيق أهدافها بالحروب المستمرة والمتقطعة، واستغلت طي صفحة الرئيس السابق دونالد ترامب في السعي للوصول إليها عبر الأدوات الدبلوماسية، لأن فكرة انسحابها التام من الشرق الأوسط تمثل تهديدا قويا لمصالحها.

وتغري أيضا قوى منافسة على إعادة ضبط المنطقة بالطريقة التي تحقق أهدافها على حساب النفوذ التقليدي لواشنطن، ما يؤثر على وضعية حلفائها الذين قد يجدون أنفسهم حيال واقع يفرض عليهم البحث عن أصدقاء جدد أقوياء.

تختبر الإدارة الأميركية المنهج الدبلوماسي وتعيد التعامل مع مشكلاته وفقا لمعطياته، فهي لجأت إلى الدخول في تفاهمات مع روسيا لحل العقد المتراكمة في كل من الأزمة السورية والأزمة الليبية، والتلميح بضخ دماء في عروق المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين، وتسريع خطوات التسوية في الأزمة اليمنية المستعصية.

ولجأت إلى إيجاد حلول سياسية مع خصومها والدول التي كادت ستدخل معها في خصومة، وانحنت لبعض العواصف التي ظهرت مؤشراتها في الأيام الأولى لدخول بايدن البيت الأبيض، فغلبت الحوار الدبلوماسي مع السعودية، وتحاول إيجاد قواسم مشتركة مع كل من مصر وتركيا، وتخلت عن الميول الصدامية السابقة مع إيران.

تعد الدبلوماسية هي الوسيلة الفعالة لحل الكثير من الصراعات، لأن استمرارها بالوتيرة التي كانت تسير عليها يضاعف من التعقيدات التي تحول دون الجلوس على الطاولة، لكن المشكلة التي تواجه الولايات المتحدة وغيرها من الدول التي وجدت في التسويات بابا لتجاوز بعض الأزمات أن هناك أوضاعا تفرض توازنات جديدة.

حفلت المرحلة الماضية بصعود قوى غير منظمة تتمثل في حركات وجماعات وتنظيمات وجدت نفسها في قلب الأحداث، ولعل الحالة الليبية تعدّ نموذجا يمكن القياس عليه في دول أخرى، حيث أفرزت الأزمة كيانات أصبح من الصعوبة السيطرة عليها، ويفضي الوصول لذلك إلى الدخول في مساومات وصفقات قد ينجم عنها دفع ضريبة.

هذه واحدة من الانعكاسات الخطيرة التي خلفها انتشار العبث في الشرق الأوسط، والذي لعبت فيه قوى مختلفة دورا في تفاقمه وزيادة حدته للدرجة التي تحتاج إلى دبلوماسية مزدوجة، إحداها تضم الأطراف الرئيسية الظاهرة، والثانية تتعامل مع قوى خفية وجدت ملاذات وحصلت على وسائل دعم جعلتها عنصرا مؤثرا يصعب تجاهله.

لم تكن التوترات التي حفلت بها المنطقة قادرة على الاستمرار فترة طويلة، لأن عددا من اللاعبين أصابه الإرهاق والتعب وغير قادر على مواصلة دوره، والمعادلات التي خطط لرسم معالمها على الأرض في بعض الدول لم تصل إلى غرضها، فمشروع الإسلام السياسي الذي عملت قوى عدة على تعميمه أصيب بنكسة لم يفق منها حتى الآن، بل أدت روافده السلبية إلى إدخال تعديلات على الكثير من أركانه الأساسية.

كانت العودة إلى الدبلوماسية مسألة عملية، فعندما تصل قوة كبرى مثل الولايات المتحدة إلى نقطة تشعر فيها بالعجز من المهمّ أن تحدث استدارة، فحتى لو استمر دونالد ترامب وكسب الانتخابات لم يكن ليواصل طريقه، لأن الفترة التي صعد فيها منحته الفرصة لتجربة منهجه، وكادت ترتد نتائجه على المصالح الأميركية في العالم.

أعاد جو بايدن الحيوية للمؤسسة الدبلوماسية بصورة لقيت ارتياحا لدى العديد من القوى التي بدأت تتعامل معها باعتبارها مدخلا جيدا لإعادة التوازن في النظام الدولي بعد أن اختلت جملة من هياكله القادرة على منع الانفلات، بالتالي سوف تغيب العشوائية التي ظهرت في تصورات البعض في التعاطي مع بعض قضايا الشرق الأوسط.

تبدو العودة إلى الدبلوماسية من خلال الإدارة الأميركية وغيرها واحدة من البدايات الدقيقة لمن يريدون تصويب مسارات منطقة عاشت نحو عشر سنوات فوق براكين وعواصف لا يزال بعضها بحاجة إلى إرادة قوية لوضع حد للفوضى التي تحولت إلى هدف لدى عناصر كثيرة.

وضعت قمة جنيف بين بايدن وبوتين أولى المؤشرات الجادة لتغليب الدبلوماسية في حل الأزمات الدولية، لكن إفرازاتها سوف يتم اختبارها في بعض الأزمات المركزية، مثل سوريا وليبيا وإيران، والتوصل إلى تفاهمات قابلة للتطبيق هو الذي يشير إلى أي حد يمكن أن تكون الحلول السياسية بديلة عن نظيرتها العسكرية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى