عودة المندوبين السامين: غطرسة مبكرة لإدارة بايدن

هيثم الزبيدي

في ذروة قوتها، عمدت الإمبراطورية البريطانية إلى تقسيمات سياسية وإدارية للإشراف على مناطق النفوذ والمستعمرات بمنطق إداري فريد. استحدثت منصبا اسمه المندوب السامي. منصب بين بين. لا هو بوزير ولا هو بحاكم. لكنه على الأرض كان يعني الكثير. هذا ما يعرفه المهتمون بتاريخ الشرق الأوسط الحديث. المقيم البريطاني في الخليج ثم المندوب السامي في العراق السير بيرسي كوكس هو صاحب اليد الطولى في رسم عالمنا اليوم. بصماته، وملاحظات السكرتيرة الشرقية (الخاتون) المس غيرترود بيل، الاثنان معا خطا لاحقا في مؤتمر القاهرة خارطة دول المنطقة وتوزيع القوى فيها. السير بيرسي شيّد عمارة العراق الحديث على أنقاض الولايات العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى.

لا تكمن خطورة مهمّة المندوب السامي بأنه قائد عسكري وسياسي. كل حكام المستعمرات كانوا كذلك. طالما تتوفر لديك القوة العسكرية من جنود الاحتلال والميزانية، يمكن أن تسيّر الأمور. الذكاء في مهمة المندوب السامي أنه بلا هذا كله. أتى السير بيرسي بفكرة تأسيس الحكم الوطني في العراق تحت سلطة الانتداب، ثم تأسيس الجيش العراقي. لماذا تحكم بريطانيا العراق مباشرة في حين بوسعها الحكم من خلال إدارة حكومية عراقية وقوات عسكرية من أبناء البلد؟ المهم النتيجة. سلطة الانتداب حاضرة وتفرض ما تريده. وبلا مقابل عمليا، لا بالمال ولا بالرجال. عبقرية بريطانية.

المقيم البريطاني في الخليج أو المندوب السامي في العراق هما السقف السياسي والدبلوماسي الذي يمكن للمنطقة التعامل معه. كانا يتبعان حكومة الهند (سيملا)، وحكومة الهند تتبع الحكومة البريطانية. وزارة الخارجية البريطانية، وبالطبع رئاسة الحكومة، تفوّض الأمر لحكومة الهند وحكومة الهند تفوّض مندوبها السامي. يصبح الشأن الخليجي والعراقي تفصيلا إداريا في واحدة من إدارات المستعمرات.

انتهى عهد الانتداب وعهود الاستعمار والحمايات وتأسست الدول الوطنية بعد الحرب العالمية الثانية وانتهاء الدور الإمبراطوري البريطاني، عسكريا أولا وبسبب الضغط الأخلاقي وحركات التحرر ثانيا. أغلقت ملفات المندوبين السامين وتأرشف تاريخ السير بيرسي كوكس والخاتون بيل في الخارجية البريطانية وفي الجمعية الجغرافية الملكية. غيرت الدول الكبرى من سلوكها في التعامل مع الدول الحديثة وصار وزراء خارجيتها مسافرين نشطين يتجوّلون ويقنعون ويضغطون.

استعجل الزمن وتحرك إلى يومنا هذا. الحياة تدبّ بفكرة المندوبين السامين من جديد. هي نوع من الإبداع السياسي الأميركي الجديد، ولم تغب للحظة عن الإبداع السياسي البريطاني القديم. واشنطن تنثر اليوم علينا مندوبيها السامين. مندوب لإيران ومندوب لليمن وقريبا مندوب للقرن الأفريقي. بريطانيا استحدثت منصبا اسمه مندوب منطقة الخليج.

تسلحت إدارة الرئيس الأميركي الجديد جو بايدن بأخطاء الدبلوماسية المباشرة لسلفه دونالد ترامب. هذه “الأريحية” في التعامل مع البيت الأبيض مباشرة غير مقبولة. خفضت مستوى تعامل الدول لمستويين. من الرئيس إلى الوزير، ومن الوزير إلى المندوب. باب البيت الأبيض أغلق، وباب الخارجية الأميركية يمرّ عبر حارس اسمه المندوب.

مرة أخرى تتكرر خطورة عمل المندوب. دوره الآن غير واضح ولا مقيّد بمحددات. يستطيع أن يفعل ويقول ما يشاء. لا هو بسفير ولا هو بوزير ولا مرّ على تمحيص الكونغرس. لكن الخطر أكبر إذا أدركنا أن واشنطن التي اعتادت على فرض الأمر الواقع بقواتها وإمكانياتها السياسية والدبلوماسية المباشرة، تريد الآن أن تكتفي بإبلاغ الدول المعنية ماذا عليها أن تفعل وأن تلتزم به. طور جديد من الدبلوماسية أم عنجهية إمبراطورية مستعادة؟ ربما شيء من الاثنين.

كل شيء جاهز تقريبا للإدارة الأميركية الجديدة. السبب بسيط يكمن في أنه الموسم الثالث من إدارة الرئيس السابق باراك أوباما. كل يعرف مكانه وكل يستعدّ لدوره. الإدارة الجديدة عملت الواجب المنزلي مبكرا من قبل أن تدخل البيت الأبيض. يوم دخلت، بدأت الفعل فورا.

خذ روبرت مالي المبعوث الأميركي للملف الإيراني (المبعوث تنويع على مندوب). يعطيك الانطباع بأنه قد عاد من إجازة ويستكمل العمل في الملف بعد فترة توقف. باشر من أول لحظة وأجرى اتصالاته مع كبار المسؤولين في المنطقة يبلغهم بما عليهم أن يتوقعوا من هذه الإدارة الآن. ثم التفت هو وإدارته إلى أوروبا وإيران لأنه يعتقد أن كل شيء سيتم هناك وما عليه إلا إبلاغ المنطقة بخطوات المفاوضات وقت الضرورة ثم الالتزام بها من دون الجلوس على طاولتها.

المبعوث الأميركي لليمن ديفيد ليندركينغ متخصص في الجزيرة العربية. اختياره فيه رسائل كثيرة. يعرف المنطقة، لكنه كان دائما موظفا صغيرا في الخارجية. لم يعمل سفيرا في دولة وأقصى منصب وصل إليه هو نائب مساعد وزير الخارجية للشرق الأوسط. الآن هو يفتي بما يجب أن يحدث في اليمن.

إذا صحّت التسريبات، فإن دونالد بوث سيكون مبعوثا أميركيا للقرن الأفريقي. مرة أخرى هناك رسائل من تعيين سفير أميركي سابق في عدد من الدول الأفريقية غير العربية مندوبا للقرن الأفريقي. أهم الرسائل أن الملف أمني تحلّه واشنطن مع قيادات المنطقة، وأن لا مكان للتدخلات من دول عربية باحثة عن النفوذ في القرن الأفريقي.

للإنصاف، دور المندوب السامي أو المبعوث الخاص بدأ أواخر عهد الرئيس دونالد ترامب. منصب نائب المندوب الدولي لليبيا احتلته الأميركية ستيفاني ويليامز. بعد أخذ وردّ وتدخلات وجدل أوروبي وتركي وعربي، لوّحت بالعصا الأميركية السحرية. أبلغت السياسيين الليبيين أن يذهبوا إلى جنيف وأن يعودوا بمجلس رئاسة ورئيس حكومة وإلّا… مشهد يذكّر باقتياد زعماء يوغسلافيا السابقة إلى قاعدة دايتون الأميركية في التسعينات تحت إشراف مساعد وزير الخارجية الأميركي في حينها ريتشارد هولبروك. خيّرهم بين توقيع الاتفاق أو محاكمات جرائم الحرب. فهموا الرسالة ووقّعوا. نتوقع مستقبلا مزهرا لوليامز في قادم الأيام.

رسم الحدود والسقوف في التعامل بين الإدارة الجديدة والمنطقة مستمرّ، وصمت المكالمات التي لم تحدث بين بايدن وقادة المنطقة يصمّ الآذان.

المعادلة الجديدة التي تريد إدارة بايدن إرساءها بسيطة إذًا: نفكر ونقرر ونبلغكم بالتنفيذ وما عليكم إلّا أن تتجاوبوا، وأن تنفقوا على مشاريعنا السياسية لإصلاح ما أفسدتموه في المنطقة. الضغوط تسبق الحديث في أيّ شيء، وملفات حقوق الإنسان والحروب موجودة يتمّ التلويح بها بلا حدّ أدنى من الدبلوماسية.

مفردة “غطرسة” مستهلكة جدا منذ نهايات عهد الاستعمار في منطقتنا. استخدمها الزعماء العرب القوميون والوطنيون والإسلاميون. أكثروا منها فضاع معناها وصارت مبتذلة. ولكن لا أجد وصفا آخر يمكن أن يشخص ما يحدث من الإدارة الأميركية الجديدة في التعامل مع المنطقة وقضاياها. بالتأكيد آخر توصيف يمكن استعماله هو دبلوماسية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى