فرنسا – واشنطن.. صفعة القرن

محمد قواص

تكشف أزمة وقف استراليا لعقد الغواصات مع فرنسا عن مجموعة من التحولات الدولية الكبرى التي قد تتداعى مباشرة على خرائط الاصطفافات المقبلة. فالمسألة خطيرة جريئة تتجاوز حدود نزاع تجاري بين دولتين، لتميط اللثام عن تشكّل تحالفات دولية قد تولد وراءها تحالفات جديدة وربما خارج سياق التقليدي والمعتاد.

تخلت أستراليا عن “صفقة قرن” بقيمة 32 مليار يورو كانت أبرمتها عام 2016 مع مجموعة “نافال غروب” الفرنسية لتوريد 12 غواصة تعمل بالكهرباء والديزل، من أجل بناء 8 غواصات بمساعدة الولايات المتحدة وبريطانيا تعمل بالدفع النووي.

هي صفعة موجعة لفرنسا. وحين يعتبر وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان أنها “طعنة في الظهر” فإن الأمر أيضا كذلك. فالتحالف الثلاثي المفاجئ بين الولايات المتحدة وبريطانيا واستراليا (أوكوس) تم تدبيره في غرف مغلقة وكتمان شديد (حتى أثناء قمة الدول السبع الأخيرة)، وجري الإعلان عنه على نحو مفاجئ ودون استشارة الحلفاء (خصوصا فرنسا) بصورة لا تليق بسلوك دول كبرى، ولا تليق طبعا بموقع الزعامة التي تحتلها الولايات المتحدة في العالم.

 يميط الحدث اللثام عن عدة تحولات:

 الأول، هو أن الولايات المتحدة في عهد إدارة جو بايدن تمدد السلوك الذي كان معتمدا في عهد إدارة سلفه دونالد ترامب من حيث تقديس شعار “أميركا أولا” ثم أولا ثم أولا، وهو أمر أشارت إليه باريس بصفته عيبا سبق لبايدن أن أدانه وخطأ وعد بإصلاحه.

 الثاني، هو أن بريطانيا التي خرجت من الاتحاد الأوروبي تؤكد انفصالها عن قواعد هذا التكتل وتحررها من قيوده، لكنها تؤكد أيضا عدم قدرتها على التحرر من هذه التبعية للولايات المتحدة والتي لطالما تبادل سياسيو لندن الاتهامات في شأن المسؤولية عن الخضوع لواشنطن والعجز عن استقلال البلد عن قرارها.

 الثالث، هو أن هذه التحالف الانغلوسكسوني (البروتستنتي) ينهل من تراث “الكومنولث” ليشكّل رافعة خاصة ذات سمات تاريخية وثقافية ونفعية تختلف عن بقية واجهات المنظومة الغربية في بُعدها الأطلسي أو الأوروبي أو في ذلك المتجمع تحت سقف نادي “الدول الصناعية السبع”. وهذا يعني أن أسئلة ستطرح حول نجاعة وتناغم المنظومة الغربية بصفتها وحدة لا تحتمل التباين وفق سرعات وديناميات متعددة.

 الرابع، هو أن الولايات المتحدة التي أعلنت عن تحولها الاستراتيجي نحو آسيا منذ عهد باراك أوباما، تنتقل (مع بريطانيا وأستراليا) نحو مباشرة تموضع عسكري عدائي يتوعد الصين بمواجهة عسكرية محتملة. الأمر يعني أن واشنطن تستنج بوجع هزيمتها الاقتصادية أمام العملاق الصيني، إلى درجة باتت تستدعي التلويح بالخيار العسكري والتعجيل بتحالفات تتشكل منها النواة الصلبة المركزية بعيدا عن فرنسا وأوروبا وبلدان الناتو.

 على هذا يجوز التساؤل حول دينامية بايدن في الإعلان قبل وعقب انتخابه رئيسا أن “America is back” باستعادة العلاقات الخارجية التقليدية المتأسسة على وحدة ضفتي الأطلسي. كان الرجل قد “حجَّ” نحو أوروبا في يونيو الماضي للقاء نظرائه في “مجموعة السبع” في كورونوال في بريطانيا، قبل أن يلتقي بعد ذلك بنظرائه في الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي في بروكسل، ليتوّج إعادة إنعاش المنظومة الغربية ووحدتها، فيطل على الخصم الروسي مستقويا بإنجازه، ويلتقي نظيره الروسي فلاديمير بوتين في جنيف.

فرنسا جزء من منطقة المحيط الهادي. تمتد جزر البولينيزيا الفرنسية وتجمع جزر كاليدونيا الجديدة لتشكل أراضي ما وراء البحار الواقعة جنوب المحيط. هذه المناطق فرنسية وسكانها فرنسيون بما يجعل من فرنسا أصيلاً من بلدان المنطقة، وانخراطها في أمن تلك المنطقة يندرج ضمن الأمن الاستراتيجي للدولة وليس سلوكا متطفلا في قضايا المحيط الهادي.

وأن تستدعي فرنسا سفيريها في واشنطن وكانبيرا فذلك تطور لافت غير مسبوق يوضح مستوى الغضب في باريس والذي بات يتمدد داخل دول الاتحاد الأوروبي. والحال أن فرنسا لطالما كانت عاملا مناكفا للولايات المتحدة متمردا على أجنداتها. حتى أن الجنرال شارل ديغول تسبب بإحدى أكبر أزمات الحلف الأطلسي حين سحب عام 1966 فرنسا من القيادة العسكرية الموحدة بالحلف دفاعا عن استقلال باريس وقرارها وخططها الدفاعية الخاصة، وتعبيرا عن امتعاض الزعيم الفرنسي من هيمنة واشنطن على توجّهات الحلف.

ولم تعد فرنسا رسميا إلى القيادة العسكرية للناتو إلا في عام 2009 في عهد الرئيس نيقولا ساركوزي بعد غياب استمر 43 عاماً. ويتقدم غضب باريس هذه الأيام واستدعاء سفيريها منسجما مع طباع هذا البلد في تقاليد تعامله مع الولايات المتحدة. وحتى لو نجحت اللغة الدبلوماسية الأميركية -المفرطة الإيجابية- في استيعاب شكلي لـ “انتفاضة” فرنسا، فإن الأمر لن ينجح أبدا في رأب الصدع وترميم ما انكسر بين باريس واشنطن. بل أنه بات من مصلحة فرنسا البناء على ما حدث لسلوك خيارات بديلة. صحيح أن وزير خارجية فرنسا جان إيف لودريان لم يتحدث عن الخروج من الناتو، لكنه أكد بحسم: “ما جرى سيؤثر على تحديد المفهوم الاستراتيجي الجديد لحلف شمال الأطلسي”.

سيدافع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن مشروعه لبناء استراتيجية دفاعية أوروبية مستقلة عن الولايات المتحدة والحلف الأطلسي. قد يدفع الحدث بتسهيل تسويق المشروع داخل الكتلة الأوروبية الذي لطالما اصطدم بموقف المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل الرافضة لأي خيار دفاعي منفصل عن الغطاء الدفاعي الاستراتيجي للولايات المتحدة. وليس مصادفة أن برلين هي من تدفع هذه الأيام لإنشاء قوة أوروبية للتدخل السريع. غير أن أمام باريس وأوروبا هذه المرة خيارات سياسية وجيوستراتيجية أخرى قد تبدأ بالابتعاد عن خرائط واشنطن في العلاقات الدولية.

في ردود الفعل ما هو عاطفي انفعالي ستخف شطاياه مع مرور الوقت. لكن بات من الجائز أخذ أوروبا مسافة علنية من مواقف واشنطن حيال بكين وموسكو. فلا تغفر كل المنظومة الغربية لأميركا “فضيحة” انسحابها من أفغانستان وتفرّدها بأنانية مطلقة بقرارات تتعلق بأمن الدول الحليفة وقواتها وما تستتبعه من تداعيات تتعلق باللاجئين والإرهاب. استطاعت ألمانيا الاستمرار في مدّ خط أنبوب الغاز من روسيا عبر بحر البلطيق “السيل الشمالي 2” على الرغم من اعتراض واشنطن. وراح الاتحاد الأوروبي باتجاه اتفاقية تاريخية مع الصين على نحو معاكس للرؤية الأميركية. فيما تروج دعوات داخل أوروبا للحوار مع موسكو بدل المواجهة.

لم تعد خصومة الغرب مع روسيا والصين تقوم على قواعد أيديولوجية. لم تعد روسيا شيوعية كما كانت في العهد السوفياتي فيما الشيوعية في الصين هي اسم الحزب الحاكم فقط. ويجوز تصنيف البلدان في لوائح النيوليبرالية الاقتصادية وأحيانا المفرطة. وإذا ما كانت علاقات الخصومة والتعاون تتأسس هذه الأيام على معايير المصالح لا قواعد القيّم والعقائد، فإن “هجوم” اتفاق “أوكوس” -داخل ما تعتبره الصين فضاء استراتيجيا لها- يخص دولا ثلاث وليس بالضرورة أن يكون ملزما للحلفاء. على هذا تتأمل الصين وروسيا المشهد الجديد بعناية وتأن وربما بارتياح، ذلك أن خرائط تحالفات جديدة قد تندفع لتحرم واشنطن ولندن وكانبيرا من مفاعيل “غزوتها” الأخيرة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى