كوابح العقوبات الأميركية على مصر

محمد أبو الفضل

منذ تلويح أحد المسؤولين الكبار في وزارة الخارجية الأميركية بفرض عقوبات على مصر، حال إتمام صفقة الطائرات الروسية سوخوي 35، لم تتوقف بورصة التوقعات حول شكل العقوبات المحتملة. وازداد الأمر غموضا مع عدم تعليق القاهرة رسميا على الموقف. ولا أحد يعلم هل هذا بمثابة كلام ساكت، بما يعني رفض اللهجة الأميركية، أم أنها مراجعة سرية للصفقة مع موسكو، أم أن هناك محاولات لاحتواء التصعيد مع واشنطن؟

اهتمت وسائل إعلام روسية بالصفقة خلال الأيام الماضية، وجرى نشر وإذاعة معلومات مفيدة عن بعض تفاصيلها، كأنها توحي بنصر سياسي حققته موسكو، بينما تجاهلها الإعلام في مصر تقريبا، ما أضفى عليها التباسا قد يكون غير مقصود، لأن القاهرة عقدت صفقات عدة مع موسكو في العلن، ولم تنكر أهمية السلاح الروسي حاليا، وانفتح شراؤها للمعدات العسكرية على دول من الشرق والغرب.

تتعامل إدارة الرئيس دونالد ترامب بحزم مع الصفقات الروسية في المنطقة، وتسعى لفرملتها بالقوة الاقتصادية عبر تفعيل سلاح العقوبات وتوابعه. حدث ذلك مع تركيا عندما عقدت صفقة صواريخ أس 400 مع روسيا، وتصاعدت التهديدات الأميركية بصورة ضاعفت من حجم الأزمات بين واشنطن وأنقرة، لكنها لم تحل دون التفاهم بينهما، ولم تعدم إيجاد أرضية مشتركة في بعض الملفات الإقليمية.

كشف الإصرار على معاقبة الدول، التي تستورد أسلحة أميركية وتتحول إلى نظيرتها الروسية، عن رغبة واشنطن في احتكار سوق السلاح، حيث تسيطر على 45 بالمئة منه في منطقة الشرق الأوسط، وتأتي خلفها روسيا بأقل بكثير من نصف هذه النسبة، قابلة للتصاعد.

إذا تساهلت الولايات المتحدة مع دول مثل تركيا ومصر، وربما غيرهما لاحقا، قد تفقد إحدى أهم أدوات التأثير والفاعلية في المنطقة، خاصة مع التقدم المذهل الذي يحققه السلاح الروسي، وتنوع الصفقات التي تعقد مع دول متباينة لاستيراده، بجانب كل من الصين وألمانيا وفرنسا وإيطاليا وبريطانيا. لم تعد أميركا محتكرة هذه البضاعة، كما كانت خلال العقود الماضية. وتسير الصفقات البعيدة عنها بوتيرة متسارعة، تهدد عرشها في المستقبل.

تعتمد الإدارة الأميركية على قانون “كاتسا” الموقع في أغسطس 2017، وتستخدمه في فرض عقوبات على الدول التي تقوم بعقد صفقات مع روسيا أو كوريا الشمالية أو إيران. ويبدو التلويح بهذا القانون أقل صرامة مع موسكو، ويتعلق أكثر بأنواع معينة من الأسلحة والمعدات التي تقترب من، أو تتفوق على مثيلتها الأميركية، أو تخل بالتوازن العسكري الدائم الذي وضعته واشنطن بين مصر وإسرائيل، ويميل إلى صالح الأخيرة بالطبع.

في حالة سوخوي 35، وهي طائرة متقدمة وبها مزايا عسكرية تجعل سلاح الجو المصري يستطيع التعامل مع التهديدات على بعد 400 كم، يعد الأمر مهما. وقيل إن القاهرة عقدت صفقة قيمتها 2 مليار دولار تتسلم بموجبها نحو 20 طائرة خلال العامين المقبلين، لتعويض عدم استجابة الولايات المتحدة لتزويدها بالطائرة أف 35 دون معوقات وشروط مجحفة.

هناك أيضا المرونة التي تتمتع بها موسكو، من زاوية التسهيلات المادية والفنية. وهي أكثر سخاء من واشنطن، وحريصة على الترويج لأسلحتها، وضمان الاستحواذ على جزء من الكعكة التي تحتكرها الولايات المتحدة منذ تراجع حضور السلاح السوفييتي في مصر عقب قرار الرئيس الراحل أنور السادات بطرد الخبراء الروس في 8 يوليو 1972.

تبدو القاهرة مسكونة بهواجس من الاعتماد على السلاح الأميركي، حيث أوقف الرئيس السابق باراك أوباما بعض الصفقات منذ عزل الرئيس الإخواني محمد مرسي في يوليو 2013 ومنع إدارته من التعاون مع القاهرة في صيانة الطائرة المقاتلة أباتشي، وإيقافه جزءا من المساعدات العسكرية، وإحجامه عن تزويد مصر بمعدات تقنية مطلوبة لمكافحة الإرهاب. وقتها بدأت قيادتها خطة طامحة لتنويع مصادر السلاح، وعدم الارتهان لإرادة واشنطن.

إن عدم تعليق الرئيس ترامب على الجدل الدائر حول الصفقة المصرية- الروسية، لا يعني قبولها أو رفضها، بل يعني أنه مدرك مدى خطورة الخيارين على مكانة بلاده في سوق السلاح العالمي المتشعب، وتأثير الموقف مع أو ضد على علاقته بالقاهرة، لأن القضية لها جوانب متداخلة، تتجاوز المكونات العسكرية الظاهرة، ويمكن أن تلقي بظلال قاتمة على ملفات سياسية دقيقة.

لقد أصبح سوق السلاح مفتوحا، واستعادت روسيا بريقها المفقود. وتحولت الصين إلى واحدة من القوى الرئيسية المنافسة. ولا يمكن تجاهل بعض الدول الأوروبية التي تسعى ليكون لها موطئ قدم في هذا الفضاء الرحب. ولذلك هناك خارطة يتم ترسيمها لهذه التجارة، ومرجح أن تتغير الكثير من معالمها الراهنة.

مع تزايد بؤر الصراعات والتوترات، وحرص دول كثيرة على امتلاك وفرة من المعدات العسكرية وتزويد جيوشها بأجود أنواعها للدفاع عن أمنها القومي، راجت الأسلحة الثقيلة وتعددت مزاياها. وتتسابق قوى دولية مختلفة لتعظيم مكاسبها في سوق لن ينضب أبدا.

تكمن مشكلة الإدارة الأميركية في كونها معتادة على لغة الصفقات، وترى أن هذه المفردة من صميم اختصاص الرئيس ترامب كرجل أعمال لا يقبل أن يناطحه فيها أو يساومه عليها أحد، بينما العالم يتغير وتتحول دينامياته بشكل سريع، وينحسر نفوذ واشنطن في مجالات كثيرة. ولن يكون السلاح استثناء، لأن هناك قوى تصعد وأخرى تهبط وتتراجع.

من الطبيعي أن تنزعج واشنطن عندما تهتز صورة مبيعات أسلحتها في سوق تاريخي مثل مصر، لأنها علامة اعتراف بتقدم روسيا عسكريا، وإشارة إلى مزيد من الفاعلية والتسويق لمعداتها مع دولة كادت تكون حكرا على السلاح الأميركي، ما يحمل دلالة على تقويض دورها السياسي في المنطقة، فتفقد تدريجيا القدرة على الأمر وفرض الطاعة.

من الصعوبة أن تسمح الإدارة الأميركية الحالية بتطبيق عقوبات على القاهرة بسبب صفقة سوخوي أو غيرها، لوجود روابط قوية ومتشابكة تحول دون هذه الخطوة، التي يفضي الإقدام عليها إلى تداعيات كبيرة على العلاقة بين البلدين، بعد أن تعززت خلال السنوات الماضية على قاعدة تتعلق بالتعاون في مجال مكافحة الإرهاب والتطرف والأمن الإقليمي.

فقدت الولايات المتحدة جزءا من وصايتها التقليدية على مصر. ومنذ سقوط نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك نسجت القاهرة خيوطا لعلاقات سياسية وعسكرية متعددة لا تجعلها خاضعة دوما لنفوذ واشنطن. وقد تفضي العقوبات أو العزف على وترها إلى فقدان أحد أهم حلفائها في المنطقة، والذي لن يعدم وجود بدائل من الغرب والشرق، مع تزايد التقديرات بأن الدور الأميركي يتآكل في الشرق الأوسط، يقابله تصاعد للدور الروسي.

مضى الوقت الذي يمكن أن تقدم فيه القاهرة على خطوة فسخ تعاقدها مع موسكو، لأن هناك تحالفا استراتيجيا، يقود التراجع عن الصفقة إلى اهتزازه وفقدان المصداقية لدى روسيا المتوجسة، ولا تزال بعض أروقتها قلقة مما حدث مع الخبراء السوفييت في مصر.

ثمة خوف مبالغ فيه من إعادة تكرار المشهد بالنسبة لبعض الصفقات العسكرية، ما يجعل القاهرة أشد تمسكا بصفقة سوخوي التي يتعلق إتمامها بسمعتها والتزاماتها السياسية، وتفكر في البحث عن صيغة لتفاهم ما مع الولايات المتحدة.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى