ليبيا.. صراعات الداخل تؤجج تنافس الخارج

عبد الحميد توفيق

واضح أن الاستعصاء، الذي تشهده العملية السياسية في ليبيا، لم يعد نابعا من التناقضات في عموم المشهد الداخلي فقط، إذ أضيفت إليها عوامل إقليمية ودولية بارزة تجلَّت علنيا مؤخرا بعد أن كانت تتلطّى خلف ستار القوى الحزبية والسياسية.

في الآونة الأخيرة برزت على السطح مواقف خارجية أفصحت بلا لَبْس عن أنها معنية بحماية مصالحها وأهدافها الاستراتيجية في دولة محورية في الشمال الأفريقي بدوافع متعددة، بعضها معنيّ بإحداث تحولات سياسية تصب في خدمة أغراضه، كالولايات المتحدة، وهذا ما تضمّنه أحد جوانب الزيارة غير المسبوقة لمدير وكالة الاستخبارات الأمريكية، وليام بيرنز، إلى طرابلس قبل أسبوعين، وأخرى تنشد تأمين مصالحها الأمنية المتعلقة بمسألة الهجرة غير الشرعية، إضافة إلى مصالحها الاقتصادية، في محاولة الاستفادة من الطاقة الغازية والنفطية الليبية، متمثلة في التوجه الأوروبي من قبل إيطاليا وغيرها من الدول الأوروبية، سعيا وراء تأمين فاقد الطاقة والغاز الروسي في الأعوام المقبلة، بعد توقف الإمدادات الروسية لها، حيث يساعدها في الوقت ذاته على التخلص من عبء الضغوطات السياسية، التي تفرزها احتياجاتها الحيوية المُلحة في هذا القطاع.

المُناخ، الذي أشاعته زيارة “بيرنز” ولقاءاته مع رئيس حكومة طرابلس، المنتهية ولايتها، والتصريحات التي تلتها، يشير إلى أن واشنطن تسعى لتحقيق عدة أغراض، منها تعميق الانقسام الحاصل بين القوى الليبية، بما يتيح لها إمكانية فرض أجندتها متعددة الاتجاهات، والسعي للتأثير المباشر في مسار العملية السياسية، بعد أن كانت متمثلة في سياق أممي جسّدته الدبلوماسية الأمريكية، ستيفاني وليامز، إضافة إلى رسائلها السياسية المرتبطة بتنافسها وصراعها المفتوح ومتعدد الساحات والأدوات مع روسيا، التي تمتلك حضورا تاريخيا في ليبيا والقرن الأفريقي.

الاهتمام، الذي تُبديه بعض القوى الدولية بالشأن الليبي، ليس إلا اهتماما بمصالحها الذاتية، ومن شأن ذلك أن يضيف تعقيداتٍ أخرى إلى المشهد الداخلي، بعد أن وجدت تلك القوى الخارجية نوافذ للولوج مجددا إلى ساحة الاستقطاب، الذي أججته مواقف بعض القوى الليبية، وأعطت الانطباع بأنها عاجزة عن معالجة أسباب صراعاتها الجديدة-القديمة، وغير قادرة على تظهير نقاط التقاء، تمهيدا لتفاهمات تؤسس لشراكات وطنية.

العنوان البارز لمجمل التحولات الداخلية في ليبيا خلال السنوات الأخيرة أفرزته صراعات القوى السياسية والمكونات المجتمعية الداخلية حول آليات إدارة البلاد في المسارات السياسية، خصوصا ما تعلق منها بتوزيع المناصب بين أقطابها والصلاحيات والمسؤوليات المنوطة بكل منها، وكذلك الاقتصادية، النفطية تحديدا، وشكّلت سببا محوريا في عملية التجاذب والاستقطاب والتخاصم بينها، وانعكست بشكل مباشر في الخيارات السياسية التي انتهجها كل طرف على المستويات الإقليمية والدولية.

المحاولات، التي أسهمت فيها عواصم عربية وإقليمية ودولية لرأب الصدع بين المكونات والتيارات الحزبية والسياسية، لم تصل إلى مبتغاها، وذلك لأسباب مرتبطة بخِيارات بعض القوى الليبية، التي أثّرت بشكل مباشر في ما تم بناؤه خلال بضع سنوات من العمل والحراك السياسي والحزبي والمجتمعي الحثيث، رغم أنها حملت في بعض الفترات بشائر توافقات حول المضي قدما بالعملية السياسية حتى تصل إلى أهدافها المنشودة، ولكن ما لبث أن تصدَّع بنيان الاتفاقات والتفاهمات مجددا، وتبين أن بلورة صِيَغ راسخة ومستقرة لإدارة البلاد تحتاج إلى دستور وطني جامع تتفق عليه الأطراف جميعها، يُنهي الواقع الانقسامي، جغرافيا وسياسيا، والذي لا يزال قائما بين شرق وغرب، مترافقا مع بقاء المظاهر العسكرية في كلا الجانبين.

الحضور الأمريكي العلني والمباشر على مسرح الحدث الليبي يثير عددا من التكهنات حول غاياته وحدوده، فضلا عن سياقاته في ظل حالة الانقسام الداخلي، السياسي والاجتماعي، والاضطرابات الأمنية والمناوشات الميدانية المتكررة بين بعض المليشيات المسلحة، لكن ظلال البيئة الليبية الهشّة لا تحجب رؤية ما بعدها في المنظور الأمريكي على المستويين الليبي والأفريقي، بعد تراجع الحضور الأوروبي في القارة السمراء من طرف، وتنامي الحضور الروسي بأشكال مختلفة في عدد من دولها وعلى تخومها من طرف آخر.

العودة للوراء لا تخدم الليبيين، والركون إلى القائم، حسبما ينطوي على تحديات كثيرة، لا يفيد أيضا.. الرهان الأهم، الذي أثبتت تجارب الأيام جدواه يكون باعتماد معيار المصلحة العليا للبلاد، وعبره يكون جسر الهوة بين الأطراف الليبية وقطع الطريق على الأجندات الخارجية، بصرف النظر عما تحمله من تبعات غير مفيدة لليبيين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى