“نصر” روسيا المرتقب

بهاء العوام

بعد ضم لوهانسك ودونيتسك وزاباروجيا وخيرسون، يستعد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لإنهاء العملية العسكرية في أوكرانيا.

والإنهاء الذي يريده بوتين بمثابة “إعلان نصر” على خصومه في الغرب، وتقديم إثبات للداخل بأنه كان، ولا يزال، يمتلك اليد الطولى في الحرب منذ تفجرها في الرابع والعشرين من شهر فبراير الماضي.

لا يهم في هذا الإعلان إن كانت النتائج تقارب الخطط الموضوعة في البداية، المهم فقط هو أن يكون بوتين هو صاحب القرار في بدء وإنهاء الحرب.. حتى ولو كانت النهاية لا تشبه تلك التي حلم بها الروس.

وقياسا بكل الدعم الغربي المقدم لكييف عسكريا واقتصاديا، لا يجب أن يفتش بوتين أصلا عن إنجاز أكبر مما تحقق.

المهم أيضا بالنسبة للرئيس الروسي أن تبدو كلفة الحرب مقاربة للتقديرات التي وضعها، وأعد العدة على ضوئها.. فشعبه سيحاكم الجدوى الاقتصادية من ضم المناطق الأوكرانية، قبل أن يلتفت إلى المكاسب السياسية والعسكرية للحرب.. وإنْ قاد “النصر” إلى أزمة اقتصادية في البلاد لاحقا، فلن يتلذذ القيصر بنشوة الظفر.

لم يتمكن الروس من السيطرة على أوكرانيا كاملة.. ولم يتمكنوا -حتى الآن- أيضا من نسف القوة العسكرية لكييف.. فكان البديل ضم المناطق الحدودية وتحويلها إلى خطوط تماس جديدة مع حلف الناتو. بالإضافة إلى أن المناطق الجديدة تحولت بكل مواردها وثرواتها إلى غنائم حرب تخفف وطأة الخسائر الاقتصادية والبشرية التي وقعت.

السيطرة على أكبر محطة للطاقة النووية في أوروبا تسجل على سبيل المكاسب من الحرب.. وكذلك الزيادة المتوقعة في إنتاج القمح بواقع خمسة ملايين طن سنويا كما يقول الكرملين.

وهناك أيضا تلك المواني التي ذهبت لروسيا على سواحل بحري آزوف والأسود.. والثروات الباطنية والبشرية التي تنضح بها المناطق الأربع.

عسكريا، لم يزُل خطر حلف شمال الأطلسي عن روسيا. بل على العكس زاد أكثر مما كان سائدا قبل الحرب الأوكرانية.. فالولايات المتحدة اليوم تنتشر بقواتها في القارة الأوروبية على نحو غير مسبوق، وقد أجبرت دول القارة على جعل ميزانية الدفاع فيها تتقدم على ميزانيات التعليم والاقتصاد وحتى الطعام والشراب والتدفئة.

ولا تنتهي إنجازات الولايات المتحدة هنا، فقد ربطت اقتصاديات القارة العجوز بها لسنوات.. وسخرت دول القارة بكل إمكاناتها لدعم توجهات واشنطن في السياسة الخارجية.

وبتعبير آخر، دعم القطبية الواحدة التي لا تريد أمريكا التنازل عنها، وتخشى من تضعضُعها مع التمدد الروسي والصيني حول العالم وفي ميادين عدة.

رغم هذا، إنْ تمكن بوتين من الحفاظ على المناطق الأربع الجديدة التي ضمها من أوكرانيا، فهذا يعني أنه أعاد رسم الخارطة الجغرافية للقارة الأوروبية.. ومع تغيير هذه الخارطة تتغير الخرائط السياسية والاقتصادية للعالم، وتتسع ميادين المنافسة الدولية لخيول أكثر، وتصبح مساراتها لا تعرف قارة بعينها ولا تنحصر بحدود.

يدرك الغرب هذه المعادلة جيدا، لذلك استعدت دوله لزيادة الدعم العسكري لأوكرانيا.. ليس كمًّا فقط، وإنما في النوعية أيضا.. فلا يجب أن تتوقف الحرب عندما يريد بوتين، حتى لو كان ذلك غير حقيقي.. لا يجب أن ينتصر الروس حتى في الدعاية.. وإن حدث ذلك، لا يجب أن يعم السلام في المناطق التي ضموها إليهم مؤخرا.

الخِيار الوحيد بالنسبة للأمريكيين والبريطانيين هو بقاء جبهة مشتعلة بين روسيا وأوكرانيا إلى حين تغير ثابت من ثلاثة ثوابت للمرحلة الحالية.. أولها وجود الرئيس فلاديمير بوتين على رأس السلطة.. وثانيها سيطرة روسيا على مناطق أوكرانية بما فيها شبه جزيرة القرم.. والثالث استمرار روسيا كقوة عالمية اقتصادية وعسكرية.

لسان ساسة الغرب ينطق في كل مناسبة بضرورة تغير هذه الثوابت الثلاثة.. كلها أو بعضها على الأقل.. قالها صراحة عدة مرات الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وباح بها تعثرا الرئيس الأمريكي جو بايدن منذ أشهر، كما لمحت لها رئيسة وزراء بريطانيا والعديد من قادة دول الغرب خلال الأشهر السبعة الماضية للحرب.

ذات الخِيار بالنسبة لواشنطن ولندن ينطبق على العلاقة مع بكين.. ولكن ثوابت المعادلة الصينية تختلف عن الروسية في كون قيادة الدولة تتعلق بحزب وليس بشخص واحد.. كما أن الصين تعشش في اقتصادات دول أمريكا وأوروبا بشكل يفوق النفوذ الروسي، أو يعد أكثر خطورة منه.

ولأن الصين تتوقع “حربا” مع الغرب، كالتي تخوضها روسيا اليوم.. تراقب ما يفعل وسيفعل بوتين.. تتعلم، وفي الوقت ذاته تستدرجه إلى التحالف المناسب لها في معركتها المقبلة مع أمريكا وأوروبا.

أما “النصر” المرتقب للروس فستحتفل به بكين وتستثمره على أكمل وجه، في الدعاية الداخلية أو الحشد الخارجي.

في الواقع، ليست الصين وحدها من سيحتفي بـ”النصر” الروسي إنْ أعلنه بوتين فعلا.. فهناك دول تؤيد روسيا، ودول أخرى تريد أن تنتهي الحرب الأوكرانية حتى ولو ظاهريا.. وفئة ثالثة تظن أن إعلان وقف القتال من جانب الروس وحدهم يكفي لإطلاق مفاوضات سلام بين كييف وموسكو، ومنها تبدأ النهاية الحقيقية للحرب.

لن يدخر الغرب جهدا لمنع الرئيس الروسي من إنهاء الحرب بعد ضم المناطق الأوكرانية الأربع.. وخاصة إنْ كان القرار يعود فقط للأمريكيين والبريطانيين.. لا يريد الأوروبيون أيضا لبوتين أن ينتصر.. ولكن البحث عن حلول سلمية للأزمة الحالية كان وسيبقى خيارا مطروحا ومفضلاً لدول الجوار الأكثر تضررا من الحرب في القارة العجوز.. وكما يقول المثل الشعبي: “من يده في الماء ليس كمن يده في النار”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى