هل تمتلك تونس وضعا مريحا للاتجاه إلى الصين وروسيا

مختار الدبابي

يلوّح الكثير من أنصار الرئيس قيس سعيد بأن تونس إذا لم تحصل على ما تريده من دعم غربي، وخاصة من صندوق النقد، فإنها ستتجه شرقا نحو روسيا والصين من أجل الحصول على الدعم، ويفقد الأوروبيون والأميركيون بذلك شريكا مهما.

ويزيد هؤلاء المتحمسون للرئيس التونسي في نغمة التفاؤل بالقول إن الغرب ليس لديه من حل سوى دعم تونس دون مواربة، وهي لن تقبل بأيّ ضغوط، ولن توقّع على أيّ اتفاق مع صندوق النقد الدولي الذي هو ذراع من أذرع الهيمنة الإمبريالية الأميركية على العالم.

الحديث سهل، ويمكن لأيّ متحمس للتغيير أن يقول ما يريد، أو يستعيد ما شاء من الشعارات التي رددها في ستينات القرن الماضي وسبعيناته، أو قرأها في كتب حالمة، ولكن منفصلة عن الواقع. لا أحد يمنعه من ذلك إذا كان يتصرف في حدوده الخاصة كأن يعبّر عن ذلك على حسابه بأحد مواقع التواصل الاجتماعي أو في كتابة مذكراته.

لكن إدارة الدولة تحتاج إلى عقل بارد يتخفف من كل الشعارات القديمة ويركز فقط على توفير الوسائل الموضوعية ممكنة التحقيق لتطوير وضع الناس خاصة في دولة صغيرة ومحدودة الإمكانيات لا يمكنها أن تقف لوحدها بوجه الضغوط.

قد يكون الحديث عن الاتجاه شرقا مناورة ورسالة مفادها أن البلاد تملك بدائل، لكن على أرض الواقع سيكون من الصعب الحديث الآن، في ظل الظروف الصعبة التي تعيشها تونس، تغيير الاتجاه شرقا والبحث عن دعم روسي وصيني.

العامل الأول أن تونس لا تمتلك رفاهية الوقت بالشكل الذي يسمح لها بالانتظار لأشهر أو لعام أو عامين من أجل جولة من المفاوضات والنقاشات مع حلفاء في الشرق طباعهم مختلفة عن شركاء غربيين يعرفون أوضاع تونس بالتفصيل ويعرفون حاجتها بالضبط، ويقفون على تفاصيل الاقتصاد التونسي وفرص الاستثمار فيه وأسباب تراجعه وكيفية الخروج من الأزمة، ويعرفون أين ستنفق الأموال التي سيقدمونها وبأيّ شكل وفرص استردادها من عدمها.

العامل الثاني يتعلق بالحديث عن تغيير المنوال التنموي والتحرر من قبضة المنظومة الرأسمالية العالمية ورأس حربتها صندوق النقد الدولي، وهو عنصر رئيسي في مقاربة قيس سعيد الفكرية ومقاربة المحيطين به من حاملي الفكر اليساري الذين يريدون اقتصادا مختلفا، ولذلك يصرون على الاتجاه شرقا حيث توجد اقتصاديات قريبة من نموذجهم.

نظريا لم تعد هنا اقتصاديات اشتراكية، روسيا ليست دولة اشتراكية بل دولة قومية تريد استثمار ميراثها السوفييتي للعودة كقوة قيصرية. الاقتصاد الصيني بات الاقتصاد الرأسمالي الثاني المنافس عالميا، وهو ما يجعل الرهان على روسيا والصين كشريكين في الحلم الاشتراكي والقيم التي تكتنزها الكتب القديمة أمرا من الماضي، ولا تأثير له لدى موسكو وبكين لتسريع دعم تونس على شاكلة الدعم الذي كان يقدم في ستينات القرن الماضي وسبعيناته للتجارب الاشتراكية الموالية لإحداهما.

يبقى التساؤل عن فرص الحصول واقعيا على دعم روسي أو صيني عاجل للرد على ما تصفه أوساط تونسية بأنه ابتزاز غربي، ومحاولة ربط الدعم المالي والاستثماري بالخيارات السياسية.

ونشطت فرضية الرهان على روسيا بعد الاتصال الهاتفي بين وزير خارجية تونس نبيل عمار ونظيره الروسي سيرجي لافروف الخميس في قلب الحراك الدبلوماسي المتوسطي الباحث عن دعم عاجل لتونس من أجل مساعدتها على مواجهة أزمتها، وهو حراك تقوده إيطاليا التي تتخوّف من وضع طارئ يزيد من تعقيدات أزمة اللاجئين.

هل يمكن الرهان على روسيا؟ الإجابة تبدو غير متفائلة أو على الأقل دون انتظارات الذين يبحثون عن قشة نجاة في الرهان على الشرق، فروسيا لا يعرف أنها ضخت في السابق المليارات من الدولارات لدعم حكومة حليفة، وعلاقاتها الخارجية مبنية على التعاون الأمني والعسكري مع الحلفاء الذين هم في وضع تونس، أو في عقد اتفاقيات لتصدير النفط، ليس أكثر.

أولا تونس لا تحتاج الآن للتعاون الأمني والعسكري، وليست في حاجة إلى صبّ الزيت على نار الخلاف مع بعض الدول الغربية خاصة الولايات المتحدة التي تتعاطى مع الوضع في تونس كملف حقوقي بالدرجة الأولى وتريد تنازلات من الرئيس سعيد بشأن موضوع الديمقراطية والأحزاب والتوقيفات الأخيرة لشخصيات بارزة.

ويثير التعامل مع روسيا حرجا إضافيا خاصة في ظل العقوبات الأميركية على مجموعة فاغنر الروسية والاتهامات الموجهة إلى روسيا بإعادة فرض نفوذها في أفريقيا في تحد لمراكز نفوذ تقليدية في القارة وخاصة نفوذ الولايات المتحدة وفرنسا، وكلاهما حليف أمني وعسكري لتونس.

تبقى فرضية واحدة للدعم الروسي وهي تدخل موسكو لدى الجزائر ودفعها إلى تسريع دعمها لتونس سواء في شكل مالي عاجل أو في شكل استثمارات روسيا أولى بها وأكثر استحقاقا لها في ظل الحرب وآثارها على المدى البعيد. كما أن الجزائر تلعب على واجهات مختلفة من أجل استثمار “إنقاذ تونس” لإظهار أنها قوة إقليمية أولى بها قيادة أيّ تحركات في المتوسط والساحل، أي مقايضة دعم تونس باعتراف غربي بنفوذها، وهذا ما يزيد فرص تمويل تونس تعقيدا، فمن المستبعد أن تقدّم دول شمال المتوسط ولا الولايات المتحدة تنازلا بهذا الحجم لفائدة الجزائر.

يبقى هل ستتحمس الصين لتونس وتعطيها دعما سريعا ودون شروط قاسية مثلما يرتبط الأمر عادة بالقروض الصينية خاصة ما يتعلق بتقديم بكين لتمويلاتها في شكل استثمارات مباشرة في البنى التحتية مقابل رهن مؤسسات الدول التي تحصل على القروض وممتلكاتها، فيما تنأى بنفسها عن التمويلات العينية الضخمة مثل ما يفعل صندوق النقد أو البنك الدولي. وعادة ما تكون قروضها المباشرة محدودة.

وفي كل الحالات فإن الاتجاه نحو روسيا والصين يبقى خيارا متوسط المدى، ويحتاج إلى نقاشات وحوارات حول الفرص وتفاوض بشأن الشروط وطريقة السداد، وهذا أمر لا يحل أزمة تونس العاجلة، ما يجعل الرهان على مسار حل عبر صندوق النقد الدولي هو الأولى بالتركيز.

إلى حد الآن لم تظهر من خلال التصريحات والنقاشات التي تجري مع شركاء أوروبيين أو مع واشنطن أن هناك بوابة تمويل مباشرة أخرى غير التدخل من أجل تليين موقف صندوق النقد لتقديم دعم عاجل لتونس. بمعنى أنه لا إيطاليا ولا فرنسا ولا ألمانيا يمكن أن تقدم التمويلات البديلة وبالحجم الذي تريده تونس من دعم نوعي لتنفيذ الإصلاحات والخروج من نفق الأزمة المالية. ما تقدر عليه الدول الأوروبية المعنية هو تقديم قروض محدودة تساعد تونس على الإيفاء بالرواتب أو مساعدة المؤسسات الاقتصادية الصغيرة للتعافي، أو لتحفيز القطاع الزراعي على الاستمرار في تقديم الحد الأدنى من حاجيات تونس.

تحتاج المرحلة إلى دور دبلوماسي فعال لوزير الخارجية الجديد باستثمار العلاقات التي اكتسبها خلال عمله الدبلوماسي من أجل طمأنة الشركاء إلى أمرين اثنين، الأول أن تونس في طريقها لتوقيع الاتفاق مع صندوق النقد، وقد بدأت فعلا في تنفيذ مجموعة من الإصلاحات من بينها الرفع التدريجي لدعم المحروقات، وهي مستعدة لمناقشة أوضاع المؤسسات الحكومية الفاشلة بهدف إصلاحها ووقف مسار تبديد الأموال عليها دون فائدة.

أما الأمر الثاني فيتعلق بالمسألة السياسية، وتقديم مقاربة السلطة لما يجري وخلفياته، ورؤيتها للديمقراطية، وهل أن التوقيفات تتعلق بملفات فساد أو تآمر على أمن الدولة تمتلكها الأجهزة الرسمية أم أنها جزء من مقاربة سياسية ترفض الديمقراطية الشكلانية الغربية وتعارض وجود الأحزاب. هذا مربط الخلاف، وهذا مسعى نبيل عمار لإيضاحه في تصريحاته الأخيرة.

وقال وزير الخارجية التونسي خلال اتصال مع وزيرة الشؤون الخارجية الفرنسية كاثرين كولونا، الجمعة، إن بلاده مستعدة للحوار مع شركائها وتعول على “تفهمهم لخصوصية المرحلة” التي تمر بها.

وأضاف عمار “بلادنا مستعدة للحوار وتعوّل على تفهم شركائها ومن بينهم فرنسا، باعتبار أن تونس انخرطت في مسار لا رجعة فيه لإرساء ديمقراطية حقيقية ومنوال تنموي أكثر عدلا وشمولية”.

فهل يقدر هذا الخطاب على إقناع الشركاء الغربيين وخاصة الولايات المتحدة، مالكة مفاتيح قرض صندوق النقد؟

ومع ذلك تحتاج تونس إلى المرونة والمناورة وفهم موازين القوى وتبدلات المزاج الدولي من أجل حلحلة أزمتها. لكن الوقوف عند “حجرة سقراط” وترديد الشعارات القديمة قد يزيد الوضع تعقيدا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى