يد أردوغان الفارغة

غسان إبراهيم

عاد رجب طيب أردوغان منتصرا من اجتماعه مع جو بايدن كما يحاول الإعلام التركي تصوير المشهد. الانتصار بالمفهوم التركي غريب كليّا عما يتعارف عليه الجميع.

يبدو أن التهدئة التركية مع الجانب الأميركي عبر قمة الرئيسين هي أكبر ما كان يسعى له الطرف التركي. فالإعلام التركي يعلم أن أردوغان صفّر الحلول الممكنة وقطع الخيوط مع حلفاء الأمس وأصبح أقصى ما يرجوه الرجل أن يتركوه دون منغصات.

التصعيدات الأردوغانية في السنوات الماضية لم تبق فرصا للحل، فالرجل وصل إلى مرحلة اللاعودة، ليس إصرارا منه بل سوء حسابات بالتصعيد وكذلك الحال بالتهدئة.

مدخرات البنك المركزي التركي تبخّرت في مواجهات دونكيشوتية مع الدولار بينما الليرة مازالت تستنزف وتهبط مسجلة رقما قياسيا جديدا وبشكل متسارع

ذهب أردوغان في مغامراته إلى مستوى ابتزاز الأوروبيين وإزعاج الأميركيين واحتلال الجيران، والآن يقدّم نفسه رجلا بيده الحل السحري.

ما فعله من مغامرات في الخارج كان مرتبطا بعوامل بقائه في الداخل، لذلك يعلم الجميع أن أردوغان لن يقدّم حلولا، بل مراوغات عسى أن ينخدع لها أحد.

حالة اللاحلول التي يعيش فيها أردوغان لن تنقذه من ورطاته الخارجية، ففي سوريا لا يرغب الجانب الأميركي في تحريك الوضع العسكري، مما يسحب من أردوغان قدرته على التقدم ضد الأكراد السوريين. ما يعني ذلك أن أردوغان خسر ورقة مهمّة عادة ما يستخدمها لإرضاء القوميين الأتراك واستقطابهم لأي انتخابات مقبلة.

وفي ليبيا، المناخ العام والموقف الأميركي لن يعطي الأتراك كامل حريتهم للسيطرة على موارد البلد، وبالتالي الاستثمارات العسكرية التركية لن يجني ثمارها أردوغان.

وعلى الصعيد العسكري والتعاون مع الجانب الأميركي، لم يبد بايدن موقفا مرحبا بعودة تركيا للتعاون في مشروع طائرة الشبح الأميركية إف – 35، وبالتالي المطالب الأميركية مستمرة بخصوص تراجع تركيا عن النظام الدفاع الجوي الروسي أس – 400، وهذا أمر أصبح مشكلة ثلاثية الأطراف. التراجع التركي يفقد أنقرة علاقاتها مع موسكو، والتمسك بمنظومة أس – 400 يجعلها تخسر واشنطن. هذه الورطة نموذج عن مشاريع أردوغان التي تخرجه من أزمة لتضعه في أزمة أكبر.

اجتماع الرجلين من هذه الزاوية بالتأكيد فشل في تحقيق أي شيء يذكر، والدليل على ذلك تصريحات أردوغان النارية بعد يومين بأن تركيا لن تغيّر موقفها إزاء منظومة صواريخ أس – 400، هذا يعكس أن بايدن رفض كل مقترحات تركيا بخصوص التعاون العسكري، مما دفع الزعيم التركي للعودة إلى عادته القديمة “خطابات رنانة وتصريحات نارية”.

ما يطلبه بايدن بخصوص حقوق الإنسان والحريات وسيادة القانون وحقوق المرأة والأقليات لا يستطيع أردوغان التفاعل معه، فوجوده في الحكم يتطلب تجاوز هذه القيم وفرض سلطة الرجل الواحد. كما لو أن بايدن يطالب لعودة العلاقات الجيدة بين البلدين بالتخلص من أردوغان وأن تعود تركيا إلى نظام برلماني تعمل فيه مؤسسات الدولة باستقلالية بما يضمن هذه القيم المتعارف عليها دوليا.

لا يرغب الجانب الأميركي في انحراف تركيا عن الناتو نحو الصف الروسي، ولكن الإدارة الأميركية لا تعول على أردوغان ولا تثق به لذلك لم تقدم له خيوط النجدة المتمثلة بدعم الاقتصاد التركي.

فكما هو معروف للمطلعين، لن ينقذ الاقتصاد التركي سوى صندوق النقد الدولي، ويعني ذلك الخضوع للإملاءات الأميركية، ولا يبدو أن أردوغان سيسير في هذا الخط، ليس حرصا على سيادة تركيا بل كي لا تسقط هيبته داخليا ويرحل في الانتخابات المقبلة.

عدم التوصل إلى حل للأزمة الاقتصادية التركية مع الجانب الأميركي، يعني لا يوجد مصدر آخر للحل، فمصير الليرة التركية مرتبط بالأسواق المالية الدولية والتي لا تستطيع تركيا أن تصمد فيها وتواجه الدولار الأميركي، وأردوغان شخصيا يعلم ما معنى هذا الكلام، عندما غامر صهره المفضل ووزير ماليته السابق في هذه الأسواق بضخ أكثر من 125 مليار دولار في الأسواق المالية لشراء الليرة التركية عسى أن تتعافى بسرعة، وكأن القصة سحر ساحر.

تبخّرت مدخرات البنك المركزي التركي في مواجهات دونكيشوتية مع الدولار بينما الليرة مازالت تستنزف وتهبط مسجلة رقما قياسيا جديدا وبشكل متسارع.

التصعيدات الأردوغانية في السنوات الماضية لم تبق فرصا للحل، فالرجل وصل إلى مرحلة اللاعودة، ليس إصرارا منه بل سوء حسابات بالتصعيد وكذلك الحال بالتهدئة

استطلاعات الرأي التركية تشير بوضوح إلى أن أردوغان أصبح مكشوفا لدى الرأي العام، فلم تعد تنطلي عليه أساليبه المراوغة، فالأمر اليوم يمسّ لقمة عيش أغلبية الأتراك، فالاقتصاد لا يمكن تزويره ولا تجميله، وما تحققه الدول من نجاحات أو أزمات ينعكس على موائد المواطنين.

وفشلُ أردوغان في إقناع بايدن بمساعدة الاقتصاد التركي والاكتفاء بالتهدئة لا يعني أن استنزاف الليرة التركية سيتوقف، بل يعني أن واشنطن لن تسعى لتدمير اقتصاد تركيا، فيكفي ترك هذا الاقتصاد بيد السلطان ليدمّره بيده، وهذا الكلام ينجرّ على باقي المجالات الأساسية لتركيا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى