ممرات الإرهاب التركية وشبكة العلاقات الداعشية

لا تزال قضية الإرهاب والعلاقة مع الجماعات المسلحة في دول الأزمات من أكثر المشكلات التي تواجه تركيا، التي دعمت روابط قوية مع الفاعلين من غير الدول، في سعيها لتحقيق أهدافها التوسعية في المنطقة.

اتجهت أنقرة بحسب تقارير دولية إلى تأسيس علاقات مع الفاعلين من غير الدول، أو دعم بعض التنظيمات المسلحة، ويدلل على ذلك ما كشفته السلطات القضائية الإيطالية في 7 سبتمبر/أيلول الجاري عن خلية إرهابية تقوم بتمرير أموال عبر تركيا لدعم أنشطة مرتبطة بـ”جبهة النصرة” فرع تنظيم “القاعدة” في سوريا قبل تغيير اسمها إلى “هيئة تحرير الشام”.

والأرجح أن ثمة بيئة حاضنة في تركيا أسهمت في إحداث تقارب بين حكومة العدالة والتنمية وعدد من الكيانات الإرهابية في سوريا، تمثلت في تخلي تركيا في توجهاتها السياسية عن اعتبارات المصلحة لصالح البُعد الأيديولوجي الذي تجلى في استمرار دعم حركات الإسلام السياسي في دول الإقليم.

تراجعت الصورة الذهنية لتركيا بفعل تصاعد الشكوك حول علاقاتها بالكيانات المتطرفة في الوعي الجمعي الدولي، خاصة بعدما فضحت تقارير تورط تركيا بدعم “داعش”، سواء من خلال توفير ممرات آمنة لعناصره للدخول لسوريا والعراق، أو من خلال شراء النفط منه ودعمه اقتصادياً، أو عبر دعمها جماعات إرهابية في إدلب، وفي مقدمتها “جبهة النصرة” التي غيرت اسمها إلى “هيئة تحرير الشام”، والتي كانت أعلنت مبايعتها لتنظيم “القاعدة”.

على الرغم من أن مسافة كبيرة تفصل بين العدالة والتنمية في تركيا، والجماعات الإرهابية في دول الصراعات؛ فإن ثمة أوجها للتشابه بينهما، لا سيما على صعيد أعمال القمع، ففي الوقت الذي تسعى التيارات المتطرفة إلى قضم خصومها ومناهضيها، فإن تركيا أردوغان تمضي قدماً نحو الحكم السلطوي عبر ممارسة الإقصاء والتصفية، وظهر ذلك في طرد منظر التجربة التركية أحمد داود أوغلو وآخرين من عضوية الحزب الحاكم بعد رفضهم سياسات الرئيس، وانحراف الحزب عن قيمه الأساسية.

وإذا كان تقديس أبناء العنف للقائد كما هو الحال في أوساط الأصوليين التي تقوم على الطاعة المطلقة للقائد وعدم معارضته، وتنفيذ كل أوامره من دون مناقشة، فنجد أن مبدأ السمعة والطاعة أصبح العنوان الأبرز داخل حزب العدالة والتنمية، حيث يمسك أردوغان بمفاصل المشهد، ويدين كل أعضاء الحزب والسلطة بالولاء لشخصه.

أضف إلى ذلك أن العدالة والتنمية والجماعات الإرهابية، كلاهما يمثل تطوراً طبيعياً لبعض الأفكار، منها مبدأ الولاء والبراء الذي يرتكز على تفسير محدد قوامه أن من قدّم ولاءه للحزب أو التنظيم مشفوعا بالطاعة، فهو من الفرقة الناجية، ومن اختلط ولاؤه فهو “خائن”، ووقع في المحظور، وكان بارزاً هنا، وصف أردوغان رفاق الأمس الذين استقالوا من العدالة والتنمية بـ”الخونة” و”المارقين”.

خلف ما سبق فإن أردوغان يؤمن مثله مثل التيارات الراديكالية بأن دولة الخلافة لا بد أن تسود الكرة الأرضية.. لذلك تم إدراج اللغة العثمانية في المناهج الدراسية التركية، وإذا كانت هذه اللغة لا علاقة لها بتعزيز الهوية القومية الإثنية أو الهوية الوطنية، فإنها تتعلق فيما يبدو بهوية عثمانية إمبراطورية يرغب أردوغان في بعثها من جديد.

الرفض الراديكالي للحداثة عنوان مشترك، ففي الوقت الذي ترى الجماعات المتشددة النساء جواري خلقن للاستبضاع، يعتقد الرئيس أردوغان أن المساواة بين الجنسين تتعارض مع الطبيعة، وأضاف أردوغان في تصريحات له خلال اجتماع لجمعية المرأة والديمقراطية في تركيا نهاية نوفمبر 2015 أن طبيعة المرأة “الحساسة” تعني أنه من المستحيل وضعها على قدم المساواة مع الرجل.

كثيرة هي المؤشرات التي تغذى الشكوك بشأن علاقة أنقرة بالجماعات المسلحة التي أدت دوراً محورياً في تفاقم أزمات الإقليم. وربما أسهمت تركيا عبر توظيف هذه الجماعات في توسيع رقعة العنف، خاصة في سوريا واليمن وليبيا. وتتمثل أهم المؤشرات فيما يلي:

 مع إصرار أنقرة على التدخل في الأزمة السورية، للإطاحة بنظام الأسد تحولت تركيا إلى ممر آمن لعبور الإرهابيين القادمين من مختلف أنحاء العالم للالتحاق بالتنظيمات المتطرفة في سوريا والعراق.. وأدت دورا مهما في تسهيل دخول وإيواء قيادات وعناصر من “داعش والنصرة” لتقديم العلاج اللازم أو تسليحهم وتهريبهم عبر الحدود.

كما انتشر خلال الفترة من 2014 حتى عام 2016 كثير من الخلايا التنظيمية التابعة لـ”داعش” على الحدود التركية السورية، وكان لبعضها مكاتب إدارية للتجنيد في بعض المدن التركية، خصوصا في حي الفاتح بمدينة، وهو الأمر الذي لا يمكن أن يتم بعيدا عن أعين الحكومة والأجهزة الأمنية، وقد أفضى ذلك إلى تزايد المقاتلين الأتراك في الصراع بسوريا ومناطق التوتر في العراق.

 استثمرت تركيا منظمات العمل الخيري كأحد روافد توفير الدعم المالي والإسناد اللوجستي للتنظيمات المسلحة في دول الصراعات، وكشفت العشرات من التحقيقات الدولية أن أنقرة استخدمت المنظمات غير الحكومية وحملات الإغاثة الإنسانية لنقل الأسلحة وكل ما تحتاجه التنظيمات من أدوية وغذاء ومعدات تحت إشراف الاستخبارات التركية، وذلك بناء على اتفاقيات بين النظام التركي وقيادات التنظيمات المتطرفة منها “داعش”، و”النصرة”.

 وفقاً لتقارير دولية، وفرت تركيا شبكة تمويل لأنشطة الجماعات الإرهابية في سوريا، تحمل في طياتها موارد مالية ضخمة، آخرها إعلان القضاء الإيطالي في سبتمبر/أيلول الجاري توقيف شبكة مالية تضم 10 أشخاص أقاموا حسابات مزورة عبر عدة شركات لجمع مبالغ كبيرة، وتحويلها عبر تركيا لتمويل أنشطة مرتبطة بهيئة تحرير الشام في سوريا.

ولم تكن شبكة إيطاليا هي الأولى من نوعها، ففي أبريل/نيسان 2019 اتهم مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأمريكية 6 أتراك وشركة صرافة “الراوي” بتشكيل شبكة مالية لتمويل تنظيم “داعش”، وأشرفت منذ عام 2017 على تحويلات الأموال من وإلى تركيا نيابة عن “داعش”. وحسب تقرير صادر عن مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات “FDD”، فمنذ بداية مايو/أيار 2018، أدارت شبكة الراوي تحويلات “داعش” من الفرع التركي لشركة الأرض الجديدة للصرافة، والتي أدرجتها وزارة الخزانة الأمريكية ضمن الأذرع المالية للتنظيم الإرهابي.

والأرجح أن التنظيمات المسلحة في سوريا تمكنت قبل نحو 5 أعوام عبر علاقتها بتركيا من تكوين مصادر مختلفة لتمويل عملياته الإرهابية، وذلك عبر العمل بالتجارة غير المشروعة، مثل المخدرات والآثار وتهريب البضائع إضافة إلى تهريب البشر، على نحو يعني أن استمرار دور تركيا في تأمين الحفاظ على المصادر المالية لهذه الكيانات يعني استمرار قدرتها على التخريب والعنف.

تعد عناصر الجيش السوري ذراع تركيا العسكرية في الداخل السوري، ولذا يحظى بدعم وتمويل تسليح تركي كبير، غير أن ما يثير القلق هو غض أنقرة الطرف عن تعاون محتمل بين “داعش” والجيش السوري الحر، خاصة أن بعض عناصر “داعش” العائدون انضموا إلى الجيش السوري الحر وصعدوا إلى مناصب قيادية، منهم سيف أبو بكير، قائد قسم حمزة في الجيش الحر، وهو عضو سابق في “داعش” من مدينة الباب السورية.

تأخر الالتحاق بتحالف مكافحة “داعش”: رفضت تركيا التوقيع على بيان اجتماع جدة الإقليمي الذي شكل نواة تحالف دولي تشارك فيه 10 دول عربية لمواجهة “داعش”، بزعم هجوم “داعش” في يونيو/حزيران 2014 على قنصليتها في الموصل واحتجازه الدبلوماسيين الأتراك كرهائن.. لكن مع تصاعد استهداف التنظيم للأراضي التركية، ومحاولته إجبار صانع القرار التركي على تلبية مصالحه الآنية والضيقة، اندفعت تركيا منذ يونيو 2015 إلى تعزيز وجودها في التحالف لكن من دون قطيعة كاملة مع جميع التيارات المتشددة، خاصة بالنظر إلى إصرارها على إسقاط نظام الأسد واحتواء الأكراد.

ختاماً يمكن القول إن ثمة مؤشرات ودلالات وفرت بيئة خصبة لتنامي الجدل عن علاقة تركيا بالكيانات الإرهابية في دول الصراعات، خاصة مع تحول هذه الجماعات إلى رافعة أساسية للسياسة الخارجية التركية في الإقليم، حيث تنظر تركيا إلى هذه الجماعات على أنها مصدر “عمق استراتيجي” ضد الأكراد، في المقابل تعتمد هذه الجماعات على تركيا كممر آمن لتوفير احتياجاتها في مناطق نفوذها من الدعم والإسناد المادي والعسكري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى