تغيير أمريكا!

د. عبد المنعم سعيد

هناك ثلاث قصص ظاهرة على السطح في الولايات المتحدة الأمريكية وكلها تشير إلى أن الدولة في طريقها إلى تغيرات عميقة.

القصة الأولى لها علاقة بجائحة الكورونا التي بدت فيها الدولة العظمى الوحيدة الباقية في العالم في مشهد بائس، فلديها قرابة خمس إصابات العالم وربع وفياته، وفي نفس الوقت بينما تتناقص أرقام العدوى في مكان، فإنها تتزايد في ولاية أخرى.

الانتقال ما بين فتح البلدان وغلقها يحدث بتكرارية عجيبة تضع القيادة العليا في البيت الأبيض، والقيادات في الولايات، وباختصار النخبة السياسية القائدة، موضع التساؤل.

لم يعد لدى الولايات المتحدة الكثير الذي تنصح به الدول الأخرى، وفي ألمانيا يقولون إنه آن الأوان أن تتعود أوروبا على العيش بدون الولايات المتحدة.

العبارات ربما تكون قاسية، ولكن الشاهد على ما يجري في الدنيا يرى أن دولا أخرى ترى أن انسحاب الدور الأمريكي من العالم هو حقيقة ينبغي التكيف معها.

القصة الثانية تربط ما بين الرئيس ترامب وشخصيته والشروخ الجارية في الدولة الأمريكية. السؤال الشائع هو هل كان رئيس آخر للولايات المتحدة سوف يتصرف بطريقة أفضل في التعامل مع الوباء؟ السؤال يحمل في داخله الإجابة، بل أن خريطة كاملة للطريق نشرها “جو بايدن” المرشح الديموقراطي للرئاسة ليس فقط من موقعه كمرشح، وإنما باعتباره كان رجلا في السلطة عندما كان نائبا للرئيس باراك أوباما، وكان عليهما سويا مكافحة أوبئة سابقة بنجاح مثل الإيبولا.

ترامب ربما كان أكثر الرؤساء الأمريكيين الذين نشر عنهم مذكرات بينما لا يزال في الفترة الأولى لرئاسته.

مايكل وولف كتب “الحريق والغضب أو Fire and Fury”، وبوب وودورد “الخوف”، وأوموروزا نيومان “الغير مهتم أو Unhinged”، وكارول ليوننج وفيليب ركر ” العبقري المستقر جدا أو A Very Stable Genius” ومؤخرا كتاب جون بولتون عن “الحجرة التي حدث فيها أو The Room Where It Happened”.

وبينما كانت مصادر كل هذه الكتب متواجدة في البيت الأبيض نفسه أو موظفين سابقين فيه، فإن الكتاب المنتظر سوف يكون من داخل عائلة ترامب ذاتها وتحت عنوان “العائلة المسمومة”. هذه الطائفة من الكتب التي جاءت من الداخل تحكي عن شخص غير متزن وغير مسؤول وعلى استعداد لعمل أي شيء من أجل إعادة انتخابه بما فيها تحويل مسار السياسة الأمريكية كما تعرفها مؤسسات الدولة.

القصة الأمريكية الثالثة تشهد ذلك الجسر الفاصل ما بين أزمة الكورونا وما بعدها حتى الانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة في الثالث من نوفمبر القادم. هنا تختلط قصة ترامب مع قصة تراجع القوة الأمريكية، فتكثر الدراسات والكتب عن أسباب تراجع القوى العظمى أو ما كتبه تشارلز كنج في دورية “الشؤون الخارجية” الأمريكية عن “كيف تنهار القوة العظمى إلى شظايا” ويطرح أن التراجع لا يبدو ظاهرا من الداخل، بينما الحقيقة أنه ينخر في أعضاء الدولة الأمريكية. ومن الطبيعي في هذه الحالة أن يظهر اتجاه مضاد يكتب عن “الاستثناء الأمريكي”، أو عن دورات التفكير في تراجع القوة الأمريكية بينما الدولة لديها قدرات فائقة على العودة مرة أخرى إلى مقعد القيادة.

في ذلك هناك اعتراف بتراجع القوة الأمريكية، ولكنه تراجع مؤقت له علاقة بالقيادة الحالية، ولكن الديمقراطية قادرة على القيام بعمليات تصحيح. وسواء كان الأمر هذا أو ذاك فإن اللحظة الأمريكية فريدة، كما كانت لحظة صعودها فإنها تبدو كذلك لحظة الشروخ الكبيرة ليست المتعلقة بسياساتها الخارجية أو التغيرات في توازنات القوى النسبية بينها وبين الصين، والمنافسة مع روسيا، والعجز عن التعامل مع أزمات دولية في كوريا الشمالية أو أفغانستان أو سوريا أو ليبيا.

وهكذا أمور؛ وإنما في الانشقاقات والاستقطاب الداخلي ليس فقط بين الجمهوريين والديمقراطيين، أو بين البيض والسود، أو الخلاف حول الموقف من التاريخ الأمريكي الخاص بالعبودية والحرب الأهلية والكونفدرالية؛ وإنما أن التركيبة الديموغرافية الأمريكية تتغير إلى الدرجة التي تخلق كثيرا من التقلصات التي يشهدها المجتمع الأمريكي.

ويليام فراي أشار في دورية “السياسة الخارجية” في الأول من يوليو الجاري إلى الأمر الهام الخاص بالتركيبة السكانية الأمريكية استنادا إلى الإحصاء العشري الأخير الذي بدأت أولى دلالاته بالظهور. صحيح أن الأمر يظهر كما لو كانت الولايات المتحدة باتت أكثر تنوعا مما كانت عليه من قبل؛ ولكن الأمر ذاته ربما يكون بكلمات أخرى تغيرا في توازن القوى بين المجموعات السكانية المختلفة.

في العموم ومن الناحية المطلقة فإن معظم الولايات الأمريكية تراجعت في عدد السكان في الفئة العمرية تحت سن ٢٥ سنة، ولكن الغالبية الساحقة من هؤلاء كانت من البيض الأمريكيين، ولولا أنه جرى تعويضها من قبل أقليات عرقية أخرى لاتينية وآسيوية لكان التراجع شاملا في عدد السكان.

في عام ١٩٨٠ كانت نسبة المقيمين البيض في الولايات المتحدة تمثل ٨٠٪ من عدد السكان، وكان السود يمثلون ١١.٥٪، واللاتينيون ٦.٥٪، والآسيويون ١.٨٪. وفي عام ٢٠٠٠ ارتفع اللاتينيون إلى ١٢.٦٪ مقارنة ١٢.١٪ للسود الأفارقة، أما الآسيويون فزادوا إلى ٣.٨٪؛ أما البيض فانخفضوا بقرابة ١٠٪ إلى ٦٩.١٪. البيانات الجديدة الخاصة بإحصاء ٢٠١٩ نجد أن البيض انخفضوا مرة أخرى إلى ٦٠.١٪، بينما ارتفع اللاتينيون إلى ١٨.٥٪ والآسيويون إلى ٦٪ بينما ظلت نسبة السود على حالها تقريبا. التراجع في نسبة البيض شامل لكل الولايات الأمريكية الخمسين وفي غالبية المدن الكبرى.

هذا التغير الديموغرافي ربما يفسر إلى حد كبير كثيرا من سياسات ترامب الخاصة ببناء الحائط على الحدود مع المكسيك، وما قام به من قيود على الهجرة والإقامة في الولايات المتحدة، بل وأكثر من ذلك سياسات العزلة عن بقية العالم والابتعاد عن العولمة التي فتحت أبواب الهجرة إلى الولايات المتحدة.

وهو يفسر من ناحية أخرى حالة التصادم الجارية في الولايات المتحدة بين البيض والسود خاصة من جانب ضباط الشرطة من البيض والتي تسببت مؤخرا بعد مقتل “جورج فلويد” في ثورة على العنصرية في أمريكا. وأكثر من ذلك النظرة إلى قضية العبودية والحرب الأهلية وأسماء الشوارع والتماثيل الخاصة بالقيادات السياسية والعسكرية للكونفدرالية الأمريكية في الجنوب أثناء الحرب الأهلية التي انقسمت على أساس اللون والسياسة الأمريكية بوجه عام. الأمر أيضا لا يخلوا من توتر سياسي، فالزيادة في أعداد الأقليات تضيف أصواتا لصالح الحزب الديمقراطي الذي هو أكثر انفتاحا على أصحاب الألوان الأخرى في المجتمع الأمريكي فضلا عن النساء والمثليين والأقليات الأخرى.

هل يعني ذلك أن الانتخابات الأمريكية قد حسمت بسبب التغيرات السكانية؟ القول هنا رغم أهمية هذا العنصر وحالة السخونة السياسة لدى الشعب الأمريكي التي تدفع في اتجاه معارضة ترامب في حنين للأيام التي كانت فيها أمريكا أكثر استقرارا وثباتا على مبادئ ليبرالية فإن هناك في الواقع عوامل أخرى ربما تكون حاسمة.

فقلة البيض النسبية ربما تدفعهم أكثر إلى صناديق الانتخابات مما هو الحال لدى الأقليات الملونة الأقل علما ودخلا؛ ويضاف إلى ذلك الحالة الاقتصادية وموقع البطالة منها خاصة أن إحصائيات مايو ويونيو مبشرة بعودة للنمو الاقتصادي والتشغيل بعد استعادة ٧ ملايين للعمل. مثل هذا ربما يكون عاملا حاسما لا يكافئه حسما إلا مدى الملل والضجر الأمريكي من شخصية ترامب المرتبطة إلى حد كبير بتراجع القوة والمكانة الأمريكية في العالم.

الأوبزرفر العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى