السيسي يستحضر أفكار عبدالناصر

محمد أبو الفضل

كانت ذكرى ثورة 23 يوليو، التي قادها الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، مناسبة جيدة للرئيس عبدالفتاح السيسي، ليرسل من نافذتها إشارات للداخل والخارج بأن نظامه يواجه تحديات إقليمية مركبة، وقادر على مواجهتها، في محاولة لاستدعاء المرحلة التي عانت فيها البلاد كثيرا بعد يوليو 1952، ورغم إخفاقاتها لا يزال عبدالناصر يحتل حيزا في وجدان عموم المصريين.

نجم هذا الشعور عن انحيازه للفقراء، والسعي إلى النهوض بمصر، والتصدي للكثير من المؤامرات ومحاولات كسر إرادته السياسية والعسكرية. نجح وأخفق، وانتصر وهزم، لكنه يحتفظ لدى شريحة من المواطنين بسيرة طيبة، استمدّها أكثر من تحدّيه لبعض القوى الكبرى التي عملت على وقف توجهاته القومية نحو الدائرة العربية، ومنع تمدده في الدائرة الأفريقية، والحيلولة دون بناء دولة عصرية ومتقدمة.

بدا خطاب السيسي، الخميس، بمناسبة الذكرى الـ68 للثورة، وكأنه استدعاء خفي للماضي وما يواجهه من أزمات متعاظمة على الساحة الإقليمية الآن، في إشارة توحي بأنه قادر على مجابهتها والانتصار عليها، مستندا على سلاح التأييد الشعبي الذي استخدمه عبدالناصر في التصدي لخصومه، وهي اللغة التي اعتاد السيسي على استخدامها، ويردد ما يفيد بأن الوحدة الداخلية صمام الأمان للدولة المصرية.

لست بصدد المقارنة بين مرحلتي عبدالناصر والسيسي، لاختلاف الزمان والأشخاص والفاعلين الإقليميين، وغير ذلك من المعاني والمضامين، لكن لم يعد خافيا أن الرئيس السيسي مغرم بكثير من معالم تجربة ناصر، منذ اليوم الأول لحكمه، أكثر من كل من أنور السادات وحسني ومبارك، إذا اعتبرنا أن العام الذي حكم فيه الإخواني محمد مرسي جملة اعتراضية في تاريخ مصر، لا تريد شريحة من المواطنين التوقف عندها.

يعتمد السيسي على المؤسسة العسكرية، التي ينتمي إليها، في كثير من المهام الرئيسة، وباتت مصدر ثقته في تنفيذ المشروعات والطموحات، وهي التي لجأ إليها عبدالناصر بحكم الانتماء والثقة أيضا، وهذا التشابه الواضح جعل البعض يراوده التفكير بأن الثاني يسير على درب الأول، وإن لم يعلن ذلك صراحة.

ويردّ آخرون على هذه المقارنة، بأن مقتضيات كل مرحلة هي التي فرضت على كل منهما الانحياز إلى الجيش في تنفيذ مهام مدنية، فالأول قاد ثورة ويريد أن يقدم طبقة جديدة في الحكم تختلف عما سبقها، ولا تلاحقها اتهامات تتعلق بالفساد، الأمر ذاته الذي سلكه السيسي تقريبا للإيحاء بالولاء للجيش من جهة، وإظهار قطيعة نسبية مع من سبقوه.

اقترب السيسي من بعض الرموز الناصرية قبل بدء فترة حكمه، عندما كان وزيرا للدفاع ومرشحا رئاسيا، وبعدها بقليل، والتقى مرارا الكاتب محمد حسنين هيكل، الذي رحل منذ أربعة أعوام، وعرف بأنه كان قريبا جدا من عبدالناصر.

بعد فترة وجيزة اتخذ السيسي لنفسه مسافة من الناصريين برمتهم، ومن بينهم هيكل، كي لا يؤخذ بجريرة الناقمين على تصرفاتهم السابقة واللاحقة، ويفقد طبقة سياسية واقتصادية واجتماعية تحتفظ بعداء لتجربتهم في الحكم وخارجه، مع ذلك لم يخف السيسي انحيازه لمحدودي الدخل، وتدشين مشروعات متعددة تخدمهم.

كما أن الالتصاق الكبير كان سيفقد السيسي بعض الدول التي تقف موقفا سلبيا من نموذج عبدالناصر، في وقت تحاول فيه الدولة جمع أشلائها بعد سقوط حكم الإخوان وما خلفه ذلك من توترات على أصعدة مختلفة، بمعنى آخر، لم يشأ السيسي كسب عداوات مجانية تضاف إلى الهواجس التي صاحبت بعض القوى مبكرا، فقد جاء من خلفية عسكرية صارمة، ولم يكن أحد يعرف بدقة ميوله السياسية.

ونجح في طمأنة دوائر عديدة بأنه ليس شبيها بناصر، أو بأي رئيس غيره، عندما تبنى تصورات سياسية منفتحة على جميع القوى في العالم، واتخذ إجراءات اقتصادية تعزز الميول الرأسمالية، وتبتعد كثيرا عمّا تبقى من النموذج الاشتراكي في العالم، الأمر الذي أقنع الكثيرين أنهم ليسوا بصدد ناصر جديد في مصر.

تعزز هذا الاستنتاج مع تبني إصلاحات اقتصادية في قلب التوجهات الرأسمالية، مثل الاتفاق على روشتة قاسية لصندوق النقد الدولي، وما تجرّه من جور على الطبقة الفقيرة، ورفع الدعم عن غالبية السلع والخدمات كركيزة كان يعتمد عليها عبدالناصر في حصد شعبية طاغية، وهي الزاوية التي استند عليها خصومه في استبعاد أن يتحوّل إلى ناصر.

لم يتخلّ السيسي حقيقة عن جوهر تصرفات عبدالناصر الاجتماعية، واستفاد من التجربة وما مرّت به من أخطاء جسيمة، وسعى إلى تحاشيها، وعمل على إحداث توازن بما يصبّ في النهاية داخل بوتقة متماثلة، حتى في موقفه الصارم من جماعات الإسلام السياسي بدت مواقف الرجلين متقاربة في الحسم وطرق المواجهة.

فكّ ألغاز الغموض في التشابه والاختلاف يأتي من فهم السيسي الدقيق لطبيعة المتغيرات في المجتمع المصري، والتحوّلات التي تمرّ بها المنطقة والعالم، وما طرأ على توازنات القوى من تباينات، ناهيك عن الطقوس التي فرضتها ظروف منتصف القرن العشرين، وبدايات القرن الواحد والعشرين، فلكلّ منهما أدواته وأساليبه المختلفة.

في مسألة استيراد السلاح التي أرهقت عبدالناصر حلها السيسي بتنويع مصادره بين الشرق والغرب بصورة جيّدة، لم تجعله رهينة لأحد، كما أن انفتاحه على دول الخليج الصديقة مثّل دعما ماديا ومعنويا مهمّا لم يكن موجودا في عهد عبدالناصر.

علاوة على تجنب التدخل العسكري في حروب خارجية، إلّا إذا فرضت الضرورة ذلك، كما الموقف من ليبيا، لأن مصر لو طبقت هذه السياسة لسيكون جيشها مشتتا في وقت تواجه فيه تحديات ربما لا تقل قسوة عمّا في عهد عبدالناصر.

يريد السيسي ترشيد استخدامه للقوة العسكرية، واقتصارها على الردع وليس الهجوم، ما يعزز أنه استوعب دروس ناصر جيّدا في الممارسات السابقة، غير أن الحصيلة في مسألة التطلع إلى دور إقليمي تبدو متقاربة، مع مراعاة التباعد في الإجراءات.

ويعي السيسي أن بلاده لن تستطيع الدفاع عن مقدراتها ما لم تكن فاعلا إقليميا مؤثرا، ولن يحدث ذلك ما لم تملك مرونة في استخدام الخشونة عند اللزوم، لأن مفاصل الأمن القومي تكمن في الخارج، فمن روجوا بأنّ مصر سوف تواصل الانكفاء على نفسها وقعوا في خطأ، لأن الأزمة الليبية تمثل تهديدا إقليميا مباشرا، وسدّ النهضة يقف تهديدا وجوديا مباشرا، وحتى مكافحة الإرهاب تبدأ من مطاردته في الخارج.

يمكن القول إن السيسي هو عبدالناصر بطبعة القرن الواحد والعشرين، حيث فرضت عليه الأجواء والتجارب والنتائج تبنّي سياسات بعيدة عنه، لكنها تصبّ في طريق واحد، هو إدراك أهمية الدور الإقليمي لمصر وهي سمة كل عصر.

 

 

 

الأوبزرفر العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى