هل حقق الصبر الإستراتيجي أهداف مصر الإقليمية

محمد أبو الفضل

احتل ما يسمى بالصبر الإستراتيجي جانبا من النقاش السياسي والإعلامي في مصر خلال اليومين الماضيين عقب تزايد الرسائل الإيجابية القادمة من أنقرة بعد الدوحة إلى القاهرة لتأكيد أن الحذر والتأني والتريث حققت أهدافا جيدة، فعلى مدار أكثر من سبع سنوات لم يتوقف التحريض على النظام المصري، وجرى استخدام الكثير من الوسائل القذرة لتكسير عظامه، وفي النهاية تتجه العلاقات مع قطر وتركيا إلى التحسن.

حققت القاهرة نصرا معنويا على تركيا، وبدا أن الصبر الإستراتيجي الذي شاع استخدامه على لسان بعض الساسة في العالم، بدءا من الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما وحتى زعيم حزب الله اللبناني حسن نصرالله، قد يتحول إلى نظرية مستقلة في الأدبيات السياسية عندما تتزايد الغيوم على الدولة وترتفع أدوات قوتها تدريجيا وتبدو الأوضاع المحيطة بها حافلة بالسيولة ومليئة بالتحديات.

لم يتخيل الكثير من المراقبين أن تقفز مصر على حزمة كبيرة من الأزمات الإقليمية والدولية فضلا عن الداخلية منذ سقوط نظام الإخوان في 3 يوليو 2013 بلا خسائر أو تنازلات مادية، حيث واجهت مشكلات عديدة وهي متسلحة بالصبر الذي بدا كأنه “قلة حيلة” أو من المسكنات التي تخفض مستوى الألم ولا تعالجه إلى حين بدأت نسمات التهدئة تلوح مع الدوحة وأنقرة، وهما من أكثر العواصم عداء للقاهرة.

جمعتني الصدفة بمسؤول مصري كبير منذ حوالي عامين ودار بيننا نقاش حول ما يجري في ليبيا وغيرها من القضايا الإقليمية التي لها علاقة بالأمن القومي، وكانت إجاباته على أسئلتي في غالبيتها مقتضبة، لكن أتذكر جملة مهمة قالها “اصبر وسوف ترى حجم التغيرات في الخارطة الإقليمية”، يومها لم يكن لهذه العبارة معنى قوي.

حقق الصبر الإستراتيجي هدفه في ليبيا دون أن تضطر مصر للتدخل العسكري الذي لم يكن بعيدا، فمنذ تحديد الرئيس عبدالفتاح السيسي للخط الأحمر سرت – الجفرة في يونيو الماضي لم يحدث اختراق مؤثر فيه، وبدأت تتسع معالم تثبيت وقف إطلاق النار، ثم أخذت التسوية السياسية طريقها، وتم تشكيل حكومة ومجلس رئاسي جديدين، وعززت القاهرة انفتاحها على جميع القوى الليبية وعدلت أوضاعها بما يمكنها من الانفتاح على جميع القوى في الشرق والغرب والجنوب.

تمكنت مصر من تثبيت رؤيتها في غاز شرق البحر المتوسط، وعززت علاقاتها مع كل من اليونان وقبرص ورسمت حدودها البحرية معهما، ودشنت منتدى الغاز وحولته إلى منظمة إقليمية مركزها القاهرة وجعلته مفتوحا للقوى الملتزمة بقواعد القانون الدولي في إشارة إلى استمرار استبعاد تركيا التي تبحث عن صيغة للانضمام إليه من خلال مصر بعد ثبوت وجود ثروات هائلة في قاع المتوسط.

ثلاثة ملفات رئيسية

يمكن تطبيق نظرية الصبر الإستراتيجي أيضا على ثلاثة ملفات مهمة، تتقدم أو تتأخر، غير أنها في النهاية حدثت فيها تحولات كبيرة لم تكن متوقعة في البداية وساعدت في محصلتها للتعرف على المزيد من فوائد الصبر على الأزمات وإدارتها برشادة.

 الأول: نجاح مصر في تنويع مصادر السلاح وامتلاك قدرات كبيرة وعقد صفقات مع دول في الشرق والغرب وإحداث توازن دقيق في هذه المعادلة، وتمت إدارة هذا الملف بحكمة وجرت الاستفادة من تغيرات عدة على الساحة الدولية سمحت بوجود مرونة في هذه المسألة، بخلاف سنوات ماضية كان مجرد الميل فيها إلى جهة يعني خسارة الجهة المقابلة.

الثاني: تحويل ملف الإخوان من قضية محلية إلى وضعها ضمن أولويات بعض الدول الكبرى، فقد اكتشفت دول غربية حجم الخطورة التي ينطوي عليها هذا التنظيم وتشابكاته مع قوى متطرفة وإرهابية عابرة للحدود، وهو ما نادت به القاهرة ولم يتم الالتفات إليه وتم التعاطي معه باعتباره دعاية مصرية تستهدف “معارضة سياسية”، ناهيك عن التوظيف المتباين لهذه الورقة من قبل قوى كبرى وصغرى.

الثالث: يتعلق بالسودان، حيث بلغت علاقات مصر معه حدا سيئا في أواخر عهد الرئيس السابق عمر البشير إلى أن اختمرت عوامل الثورة في البلاد وتخلصت منه ومن نظامه، وظهرت طبقة عسكرية وسياسية في الخرطوم لم تمانع في التعاون والتنسيق مع القاهرة، وبدأت العلاقات تصل إلى مستوى لم تبلغه من قبل في التناغم والحفاظ على المصالح المشتركة وتبني تصورات متطابقة في قضايا حيوية.

تكفي تفاصيل التطورات في الملفات السابقة للتأكيد على أن هناك رؤية بعيدة حكمت التعامل معها، لكنها لم تصل جيدا إلى فئات عريضة من المواطنين في مصر، ربما للطبيعة السرية للمهام المتقاطعة معها أو لقصور في توصيل المعلومات الصحيحة إلى الرأي العام، وربما لغلبة الخطاب المضاد للقاهرة.

بدأت الإدارة المصرية تحصل على المزيد من الثقة في آليات تعاملها مع قضايا تركيا وقطر والإخوان وشرق المتوسط وليبيا والسودان، يضاف إليها عدم استبعاد تمكنها من الحفاظ على الثوابت الأساسية في القضية الفلسطينية والتي واجهت تحديا متعاظما بعد توقيع عدد من اتفاقيات السلام بين إسرائيل ودول عربية.

وبدا المنظور المصري لإدارة القضية على وشك الانهيار، لكن الشوط الإيجابي الذي قطعته القاهرة بالتعاون مع عمّان على وشك أن يعيد ضبط الدفة الفلسطينية ويعيدها إلى سيرتها السابقة التي تقوم على حل الدولتين، وأخذت قوى إقليمية ودولية مختلفة تتفاعل مع طرح العودة لاستئناف المفاوضات والاستعداد لتحريك قطار السلام.

أين ملف سد النهضة

إذا كان التريث والحذر وعدم اللجوء إلى خيارات خشنة قد حققت تقدما في هذه القضايا، فلماذا لم يتم الحصول على نتيجة مماثلة في أزمة سد النهضة الإثيوبي الذي يمثل أحد أبرز عناوين الصبر الطويل على المماطلات والمفاوضات المتعثرة؟

يمثل هذا السؤال اختبارا قاسيا للإدارة المصرية، فعلى مدار عشر سنوات لم تقدم أديس أبابا تنازلا أو تغير من قناعتها، مع ذلك تتمسك القاهرة باستمرار التفاوض الذي انتقل من عاصمة إلى أخرى دون أن تتمكن من ثني إثيوبيا على القبول بالمنطق القائم على مبدأ عدم إلحاق الأذى بأي من الدول الثلاث مصر وإثيوبيا والسودان.

تقوم القاهرة والخرطوم بتحركات واسعة حاليا على خطين متوازيين، أحدهما التمسك باستمرار المفاوضات مع تحديد أهدافها بدقة وعبر انخراط لجنة وساطة رباعية تتكون من الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، والآخر حشد موقف داعم للخطاب المصري – السوداني الخاص بأن الإضرار بالمصالح المائية للبلدين يهدد الأمن والسلم في المنطقة.

يمكن أن يفشل التوجهان وتصر أديس أبابا على موقفها، وهذا هو الاحتمال الأرجح، ويصعب الحصول على مواقف ضاغطة عليها، في هذه الحالة لن يتم اللجوء إلى الخيار العسكري دفعة واحدة، أو يتبنى البلدان عملية عسكرية مشتركة، فجميع التصورات المقدمة منهما نفت هذا السيناريو حتى الآن.

هنا قد تأتي حكمة الصبر الإستراتيجي من داخل إثيوبيا، فالأوضاع على فوهة بركان قابل للانفجار في أي لحظة بعد تصاعد أزمة إقليم تيغراي، بعد أن لفتت الانتهاكات التي مورست بحق سكانه أنظار العالم، وبدأت الضغوط تتزايد على إثيوبيا، وارتفعت ملامح المناوشات الحدودية بينها وبين السودان، وفي ظل تعدد المشكلات باتت القاهرة تراهن على حدوث تطورات داخلية تجبر أديس أبابا على القيام باستدارة في ملف سد النهضة قد تكفل تفكيك عدد من أزماتها.

يمنح تفوق الصبر المصري مع إثيوبيا ثقة كبيرة في النظرة التي تتشكل معالمها والتي يمكن ضمها لنظريات العلوم السياسية الناجحة واعتمادها في التفاعلات الدولية، خاصة إذا توافرت للدولة التي تتبناها مجموعة من المعايير والمحددات المحورية.

وينطلق ذلك من امتلاك قوة كافية وإرادة واضحة وتحديد دقيق للهدف وإيمان عميق بالقضية وصولا إلى فهم قواعد العلاقات الدولية وتعقيداتها وتوازناتها، فالصبر الإستراتيجي يتوقف نجاحه على متانة الرؤية وإلا كانت الدول التي تعاني من صراعات ونزاعات سنوات طويلة أولى به.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى