ليبيا.. الطريق إلى الاستقرار والسلام مازال طويلا

الجمعي قاسمي

لا يتوقف الكثيرون عن الترويج للتفاؤل عند الحديث عن المسار الجديد الذي دخله الملف الليبي بتطوراته الميدانية ومشاهده السياسية المختلفة التي بدأت تفرض سياقات مُتشعبة لمعادلات المرحلة الانتقالية التي نصت عليها خارطة الطريق المنبثقة عن حوار جنيف السويسرية.

ورغم الإجماع على أن السلطة التنفيذية الليبية الجديدة برئاسة رئيسي المجلس الرئاسي محمد المنفي وحكومة الوحدة الوطنية عبدالحميد الدبيبة، تواجهها حزمة من التحديات المُتحركة محليا، والمُتداخلة إقليميا ودوليا، فإن محاولات إشاعة التفاؤل تواصلت بمفردات بدأت كأنها خارج السياق العام لتطور الأحداث.

وأخذت تلك المحاولات صيغة البحث عن المُبررات التي تنحو إلى التقليل من وطأة تفاصيل استحقاقات المرحلة الانتقالية بعناوينها السياسية والأمنية والعسكرية والاجتماعية، حينا، والرهان حينا آخر على المواقف الإقليمية والدولية التي تتالت تباعا للترحيب بالخطوات التي قُطعت على طريق توحيد ليبيا.

وتداخل هذا البحث التبريري، وما رافقه من رهان سياسي على الدعم الإقليمي والدولي، مع حسابات لا تخلو من أجندات خفية تحكمها مصالح متنافرة مرتبطة بسطوة النفوذ، لها أبعاد إستراتيجية تتجاوز ليبيا إلى محيطها المتوسطي والأفريقي، تجعل من الحديث في المطلق عن التفاؤل لا يستقيم.

ونعتقد أن حصر الحديث ضمن دائرة مثل هذا التفاؤل دون غيرها، واختزال الأمر داخل هذا الحيّز الضيق والمحدود من الاستشراف، لا يُساعد على تفكيك حقيقة الوضع للوصول إلى استنتاجات قريبة من الواقع، وبعيدة عن كل أشكال البروباغندا الدعائية التي عادة ما تُقدم قراءات مغلوطة لتمرير أجندات على حساب أخرى.

وللابتعاد عن متاهة تلك البروباغندا التي يسعى البعض إلى استخدامها على نطاق واسع هذه الأيام، كان لا بد من التأكيد على ضرورة رفض الإيحاءات المغلوطة لتلك البروباغندا عبر الدفع بفهم موضوعي لتفاصيل ما تشهده ليبيا حاليا، التي تؤكد في مجملها على أن هذا التفاؤل يبقى مشوبا بالحذر.

والمقصود هنا بالإيحاءات المغلوطة، تلك التصريحات والمواقف التي تتالت خلال الأيام القليلة الماضية عبر سياقات يُراد منها أن تُبنى على قاعدتها أسس المرحلة الانتقالية على حساب مخرجات خارطة الطريق، وتحديدا حين يتعلق الأمر بالنظام التركي في علاقة بتواجده العسكري المباشر في ليبيا، إلى جانب القوات الأجنبية الأخرى، الذي يجعل من مفردات التفاؤل الحالي قريبة جدا من الترويج إلى الوهم في مناخات مُتقلبة.

كل المؤشرات تدل على أن تركيا التي فقدت الكثير من أوراق الضغط لديها مازالت تُراهن على عامل الوقت الضاغط بقوة على السلطة التنفيذية الليبية الجديدة للإبقاء على تواجدها العسكري في ليبيا

ولعل القلق العميق الذي عبر عنه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إزاء التقارير حول استمرار وجود عناصر أجنبية في مدينة سرت ومحيطها ووسط ليبيا، لدليل يُمكن البناء عليه للقول إن ذلك التفاؤل ليس بريئا، وإنما محكوم بأجندات تريد أن تصطنع التفاؤل حتى في أصعب الظروف.

وعكس موقف غوتيريش الذي جاء في تقرير سلمه إلى مجلس الأمن الدولي تحذيرا مُبطنا من خطورة الخلط بين نشر التفاؤل وترويج الوهم، حيث أعرب عن أسفه لأنه “لم يتم الإبلاغ عن أي خفض في عدد القوات الأجنبية أو أنشطتها في وسط ليبيا”، رغم إشارته في تقريره إلى ما وصفه بـ”وجود تحرك طفيف، لكنه غير كاف لسحب المرتزقة والقوات الأجنبية من التراب الليبي”.

وجدد في هذا السياق دعوته إلى جميع الأطراف الفاعلة المحلية الليبية والإقليمية والدولية إلى احترام أحكام اتفاق وقف إطلاق النار لضمان تنفيذه بالكامل من دون تأخير، والامتثال الكامل وغير المشروط لحظر الأسلحة الذي تفرضه الأمم المتحدة، ونشر تدريجي لبعثة مدنية غير مسلحة تراقب الاتفاق ومغادرة المرتزقة والقوات الأجنبية.

ونحسب أن قلق غوتيريش مشروع، وله استدلالاته القوية وحججه وذرائعه التي لا يمكن لأحد أن ينكر عليه أسباب ذلك القلق الكثيرة، خاصة وأن كل المؤشرات تدل على أن تركيا التي فقدت الكثير من أوراق الضغط لديها، مازالت تُراهن على عامل الوقت الضاغط بقوة على السلطة التنفيذية الليبية الجديدة، للإبقاء على تواجدها العسكري في ليبيا.

وتسعى تركيا بوسائلها المعهودة وخاصة منها الميليشيات المحسوبة عليها، والتي تتحرك بأوامرها، إلى محاولة تمرير مقارباتها عبر فرض سياسة الأمر الواقع والتعدي على سيادة ليبيا، وهي لا تكف عن المناورة بهدف الاستفادة من تواجدها العسكري في ليبيا، وتوظيفه لمصلحة الأجندات التي رسمتها، مُعولة في ذلك على غموض موقف حكومة الدبيبة.

وبدأ هذا الغموض يتراكم عندما أبقى الدبيبة الباب مفتوحا أمام استمرار المراوغات التركية، من خلال تصريحات سابقة اعتبر فيها أن “العلاقة مع تركيا ستكون مميزة”، الأمر الذي أثار الكثير من الشكوك حول مدى التزام هذه الحكومة الجديدة بالعمل على تسوية ملف التواجد التركي في ليبيا.

ولم تُفلح تصريحات الدبيبة التي تتالت بعد ذلك في تبديد تلك الشكوك حول مصير هذا الملف المحوري بالنسبة إلى ترسيخ الأمن والاستقرار في ليبيا، خاصة وأنه وصف في تصريحات أخرى الاتفاقيات الأمنية والعسكرية المثيرة للجدل التي وقعتها حكومة السراج مع تركيا بـ”المهمة”، وأن “العمل سيستمر بها”، وذلك رغم إدراكه بأن عددا من فرقاء الصراع وخاصة منهم الجيش الليبي يرفض تلك الاتفاقيات، ويشترط خروج القوات التركية من ليبيا.

بل أن الدبيبة يُدرك أيضا أنه دون تفكيك ألغام هذا الملف، سيبقى المناخ العام في البلاد يتسم بالتوتر، ويحاكي في جزء كبير منه واقع الانقسام الذي ساد البلاد خلال الفترة الماضية، لاسيما وأنه لا يقل تعقيدا عن ملفي تفكيك الميليشيات، وفوضى انتشار السلاح الذي مازال يحصد المزيد من الأرواح، ما يعني أن التفاؤل المذكور يبقى نسبيا، لأن طريق ليبيا نحو الاستقرار والسلام مازال طويلا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى