قمّة لردع إسرائيل وإلا فلا…

بينما تشتدّ العزلة السياسية على بنيامين نتنياهو وحكومته في مختلف أرجاء العالم، بما في ذلك داخل الولايات المتحدة، حيث قال الرئيس دونالد ترامب إن انتقاد إسرائيل أصبح أمراً معتاداً في بلاده وفي الكونغرس، لا يجد نتنياهو من وسيلةٍ لفك عزلته سوى الهروب الهستيري إلى الأمام بتوسيع نطاق اعتداءاته على دولٍ في الإقليم كان آخرها دولة قطر، التي تحظى بمكانة مميزة في عالمنا بدبلوماسيتها النشطة في التوسّط لحلّ النزاعات ولكونها مصدراً رئيساً للطاقة ومركز إشعاع لحوار السياسات والثقافات، وهو ما أظهرته ردود الفعل الإقليمية والدولية التي أبدت السخط على الاعتداء غير المسبوق ضد دولة مسالمة. وخلافاً لأهواء نتنياهو والعصابة الحكومية المتطرّفة، ألحق هذا التطور الشنيع المزيد من الخسائر والأضرار السياسية والمعنوية بدولة الاحتلال، والتي باتت من أكثر الدول توليداً للإدانات والانتقادات الشديدة لها في مختلف أرجاء العالم، بينما تعاني إدارة ترامب نفسها من خسائر إضافية في المكانة والصدقية، نتيجة تستّرها طويل الأمد على انتهاكات حليفها في تل أبيب وفظائعه، وهو ما بدا من ارتباكٍ شديدٍ في ردّ فعل البيت الأبيض على الاعتداء، وقد بدا مصحوباً بانتقادٍ ملطّف في صياغته.
وإذ تجاوزتْ تل أبيب مرّة أخرى كل حدود، وزاد الشعور في عواصم شتّى بالحاجة إلى فرض إجراءاتٍ ضدّها، فإن القناعة التي تنبض بها ردود الأفعال المختلفة تتمحور حول أن الوضع ما بعد هذا الاعتداء لن يكون كما كان عليه قبل وقوعه، وأن لا ضوابط لتلك الدولة، وتتصرّف على غير ما تسلكه الدول التي تحترم الحد الأدنى من محدّدات العلاقات بين دول عالمنا، بما يحمل ذلك من مخاطر داهمة تهدّد الأمن والسلم. وفي هذا الإطار، جاءت الدعوة إلى عقد قمة عربية وإسلامية في الدوحة غداً الأحد وبعد غد الاثنين، ليس من أجل تنظيم احتفالية سياسية رفيعة المستوى والتمثيل، بل لـ”إقرار مسار جماعي لردع إسرائيل”، وفق ما صرّح رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري، الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، في حواره مع “سي إن إن”، الأربعاء الماضي، وهو ما افتقدته القمم العربية والإسلامية التي انعقدت خلال الشهور العشرين الماضية، ما أضعف من أثرها على مجريات التطورات.
من الأهمية بمكان أن تنجح الدول العربية في عقد قمّةٍ لتحقيق هذا الهدف المصيري، غير القابل للإرجاء أو الالتفاف عليه، فالمخاطر تتخطّى قطاع غزّة المنكوب بالبربرية الإسرائيلية، وتشمل الإقليم. وكان رئيس الكنيست ذو الأصل المغربي، أمير روحانا، صريحاً حين علّق على استهداف دولة قطر بالقول إن ما جرى “يحمل رسالة إلى الشرق الأوسط بأسره”. وقبل ذلك، كان نتنياهو يجاهر بأنه مرتبط روحياً وتاريخياً بمشروع إسرائيل الكبرى، وأنه لا يتخلى عنه، وهو مشروع استعماري توسّعي يستهدف السطو المسلح على أجزاء من سورية ولبنان ومصر والأردن، فيما يضيف إليها بعض عتاة الصهاينة أجزاء من العراق والسعودية، وحتى الكويت. ويستمد نتنياهو تجرّؤه هذا من التحالف الشاذ القائم مع واشنطن التي تجد نفسها كل مرة ملتحقة بالقاطرة الإسرائيلية، حينما يتعلق الأمر بالأطماع الصهيونية في فلسطين والإقليم العربي. غير أن من شأن ذلك التسبّب باضطرابات داخل الولايات المتحدة، حيث بات شطرٌ كبيرٌ من الرأي العام يمقت السلوك الإسرائيلي، ويرفض المماشاة الأميركية الأوتوماتيكية لدولة الاحتلال، والتي آن الأوان لوضع حدّ لها، وهو ما ستواجهه إدارة ترامب أكثر فأكثر في مُقبل الأيام.
وعلى مدار الأسابيع والشهور الماضية، تتنامى حالة الرفض الشديد للسلوك الإسرائيلي في أوروبا، مقرونة بإجراءات اتخذتها إسبانيا والنرويج وبلجيكا، ومع تعاظم التضامن الشعبي مع غزّة، كما تدل عليه المسيّرات التي لا تتوقف، وتنظيم أسطول الصمود العالمي، والاستعداد المتزايد للاعتراف بدولة فلسطين، والانضمام إلى مؤتمر حلّ الدولتين الدولي الذي ترعاه السعودية وفرنسا. فضلاً عن أصداء أقوى في أميركا الجنوبية تحمل رسالة النبذ للدولة العبرية المارقة، وأماكن أخرى في العالم، مثل أيرلندا وجنوب أفريقيا. أمام هذا المدّ المتنامي، من الطبيعي أن يتقدّم العالم العربي خطوة إلى الأمام باتخاذ إجراءات ضد دولة الاحتلال وعدم الاكتفاء بالبيانات السياسية وبتقديم المساعدات على أهميتها. إذ إن التردد أو الإحجام عن اتخاذ اجراءات مناسبة يترك المبادرة بيد دولة الاحتلال ومؤداها كما تدل الوقائع: “قولوا ما شئتم ونحن نفعل ما نشاء”. وهم يفعلون في مدىً رحب يرونه مفتوحاً أمامه، حيث يقترن فائض القوة مع الاعتداءات المتكرّرة ومع استعراض القوة الغاشمة.
يدلّ واقع الحال على أنه لم يعُد مفيداً التمسّك فحسب بدعوة المجتمع الدولي إلى التحرّك وتأديته مسؤولياته، وهو ما واظبت عليه القمم السابقة، فالعرب جزءٌ أساسي من هذا المجتمع، ويتعيّن عدم إعفاء الذات من النهوض بالمسؤولية. كما تدلّ خبرة التفاعلات السياسية على أن المجتمع الدولي لن يتحرّك من تلقائه إذا لم يبادر أصحاب الشأن بالتحرّك، واستثمار ما يمتلكون من موارد وطاقات، واذا لم يستجب للتحدّي أصحاب العلاقة، ففي تقرير بعنوان “ماذا تفعل الصين لأجل غزّة” نشرته صحيفة لوموند دبلوماتيك، وأعادت وكالة الأناضول نشره في مطلع سبتمبر/ أيلول الجاري، عن موقف الصين من تطورات الحرب الوحشية على غزّة، شرح باحثٌ صينيٌّ بإيجاز موقف بلاده للصحيفة الفرنسية إن بلاده “لا ترى سبباً للتحرّك، بينما الدول العربية نفسها لا تفعل شيئاً. نحن نعتقد أن شعوب الشرق الأوسط يجب أن تدير منطقتها بنفسها، ولا تحتاج وصاية خارجية”. والصين دولة صديقة، وجزء فاعل من المجتمع الدولي، والرسالة أن أحداً لا ينوب عن أحد في تحمّل المسؤولية ومواجهة التحدّيات الخاصة به. ويقيناً أن الصين، ومعها بقية الدول، سوف تتفهم إن لم ترحب بأية إجراءات تتخذ لردع إسرائيل. وقد طال انتظار ظهور هذه الإجراءات، حتى بلغ الأمر بالدولة المارقة بالاعتداء على دولة خليجية تبعد عنها 1800 كيلومتر. يقول المرء بهذا كي لا نستيقظ على مزيد من الاعتداءات، وعلى مزيد من الشجب والإدانة.