عن قابلية خطّّة ترامب للتطبيق وفرص نجاحها

لم يعلن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، خطّته للسلام في الشرق الأوسط إلا بعد لقاءٍ جمعه برئيس حكومة دولة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، في البيت الأبيض (29/9/2025)، ولم ينشر نصّها الرسمي إلا في نهاية مؤتمر صحافي عقداه في أعقاب هذا اللقاء، ما ولّد شعوراً بأنها خطّة أميركية إسرائيلية مشتركة. ورغم تصريحات لقادة دول عربية وإسلامية، كان ترامب قد التقى بهم على هامش اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، أكّدت أن ما سمعوه في نيويورك يختلف كثيراً عما أعلن في واشنطن، إلا أن هؤلاء القادة حرصوا على إعلان تأييدهم للخطّة كما نُشرت، رغم قناعتهم باحتوائها على ثغرات عديدة، وراحوا يمارسون ضغوطاً شديدة لحمل حركة حماس على قبولها، وهو ما جرى فعلاً. ففي يوم الجمعة (3/10/2025)، أرسلت “حماس” ردّها الرسمي على الخطّة، ولم يكتفِ ترامب بالترحيب به، وإنما سارع بنشره في موقعه بوسائل التواصل الاجتماعي (تروث سوشال)، مصحوباً بنداء يناشد فيه إسرائيل وقف القصف على قطاع غزّة؛ ما أوحى بأن الخطّة التي تحمل اسمه باتت على وشك دخول حيّز التنفيذ. فهل الأمر كذلك حقّاً؟ وهل خطّة ترامب قابلة للتطبيق في أرض الواقع وحدةً واحدةً غير قابلة للتجزئة؟ وما فرص نجاحها؟
للإجابة عن هذه الأسئلة، ينبغي التذكير بأن الهدف النهائي لهذه الخطّة، ليس وقف إطلاق النار بشكل دائم في قطاع غزّة، وإنما اعتبار وقف إطلاق النار خطوةً أولى “أساسية” على طريق تحقيق هدف أسمى، وهو تحقيق تسوية دائمة ونهائية لصراع معقّد وممتدّ يرى ترامب أنه مستمرّ “منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام”. ولأنها لا تتضمّن مراحل وجداول زمنيةً منفصلةً عن بعضها، وإنما تقوم على افتراض ضمني مفاده بأن النجاح الذي يتحقّق مع كل خطوة تقطع على المسار المرسوم لتحقيق الغاية النهائية، يساعد على توليد زخم يكفي للتغلّب على العقبات التي قد تظهر لاحقاً، فمن الطبيعي أن تتوقّف قابلية خطّة ترامب للتطبيق على شرطَين أساسيَّين. الأول: قدرتها على تضييق الفجوة بين الأهداف المتعارضة لطرفَي الصراع، من خلال العثور على حلول وسط تحقّق مكاسب مقبولة لكليهما، والثاني: فاعلية الآليات المقترحة للوصول إلى الأهداف المرجوة.
والواقع أن خطّة ترامب تواجه معضلةً كبرى قد تؤدّي إلى انهيارها في نهاية المطاف، أو حتى في منتصف الطريق، لأسبابٍ كثيرة، ربّما كان أهمها اختلاف الأهداف الحقيقية التي تسعى إسرائيل إلى تحقيقها عن أهدافها المُعلَنة. فالأهداف المُعلَنة إسرائيلياً هي استعادة جميع الرهائن، الأحياء منهم والأموات، دفعةً واحدةً، وليس على مراحل، ونزع سلاح “حماس”، ومعها بقية الفصائل الفلسطينية المسلّحة، وضمان عدم مشاركتها في إدارة القطاع. ولأن خطّة ترامب تبنّت هذه الأهداف بوضوح، ووافقت عليها “حماس” من حيث المبدأ، والتزمت بالتعاون مع الوسطاء لتلبيتها، فلن يثير تحقيقها عقبات غير قابلة للتجاوز. المشكلة أن لإسرائيل أهدافاً خفيّةً يصرّ نتنياهو، ومعه الجناح المتطرّف في حكومته، على تحقيقها، أهمها إخلاء قطاع غزّة من سكّانه، بالتهجير القسري أو بالإبادة الجماعية أو بكليهما إذا لزم الأمر، تمهيداً للسيطرة عليه واحتلاله والشروع في إقامة المستوطنات فيه. أمّا الأهداف الفلسطينية فهي شديدة الوضوح، وتشمل انسحاب إسرائيل الكامل من القطاع والمحافظة على بقاء الشعب الفلسطيني في كامل ترابه الوطني، وإقامة دولة فلسطينية مستقلّة عاصمتها القدس الشرقية في الأراضي التي احتلّت عام 1967. ولكي تنجح خطّة ترامب في التوفيق بين هذه الأهداف المتعارضة، تتعيّن ممارسة ضغوط مكثّفة على إسرائيل لإجبارها على التخلّي نهائياً عن أهدافها الخفية وفتح الطريق نحو إقامة دولة فلسطينية مستقلّة خالية من المستوطنات اليهودية. صحيح أن الخطّة تضمّنت نصوصاً تشير صراحةً إلى انسحاب إسرائيل الكامل من القطاع (البند 3) وإلى رفض التهجير (البند 12)، إلا أنها تخلو من أيّ نصوص صريحة تربط عضوياً بين مصير الضفة والقطاع، فضلاً عن أنها لا ترسم خريطة طريق واضحة تفضي إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة.
تتوقّف قابلية خطّة ترامب للتطبيق، في سياقٍ كهذا، على فاعلية آليات أربع، يتعيّن أن تعمل بالتوازي وبسرعات متقاربة. لتبادل الأسرى والمحتجزين، ولإدارة القطاع وإعادة الإعمار، ولنزع سلاح الفصائل وبناء قدرات أجهزة الأمن الفلسطينية، وأخيراً آلية لتمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة حقّه في تقرير مصيره وبناء دولته المستقلة. ولأنها تتعامل مع هذه الآليات بطريقة متفاوتة الأهمية والسرعات، يمكن القول إن قدرتها على معالجة هذا الخلل لا يمكن أن تظهر إلا بالممارسة، أي بعد وضعها موضع التطبيق الفعلي، فسيتّضح حينئذ ما إذا كانت الآليات التي تضمّنتها الخطّة قادرة على التدرّج في عملية بناء الثقة بين الطرفَين المتصارعين وتنمية الإحساس لديهما بأنها خطّة لتسوية شاملة تستهدف تحقيق مكاسب متوازنة للجميع، وأنها لا تستند إلى معادلة صفرية تمكّن أحد طرفي الصراع من تحقيق جميع أهدافه على حساب الطرف الآخر.
يلفت النظر في خطّة ترامب اهتمامها البالغ باستعادة المحتجزين، الأحياء منهم والأموات، وحرصها الواضح على تحقيق هذا الهدف الثمين في أسرع وقت ممكن، حدّدت له فترة لا تتجاوز 72 ساعة من بداية دخولها حيّز التنفيذ. صحيحٌ أن الطرف الفلسطيني سيحصل في المقابل على ثمن كبير، وهو إطلاق سراح 250 أسيراً فلسطينياً من المحكوم عليهم بالحبس المؤبّد و1700 من المعتقلين بعد اندلاع الحرب، غير أنه لا ينبغي تجاهل حقيقة أساسية، أن المحتجزين يشكّلون ورقة الضغط الأساسية لدى الطرف الآخر في الصراع، وبالتالي، يجب أن تُقابل موافقته على الالتزام الصارم بتنفيذ هذا الجانب بضمانات أميركية قاطعة ومكتوبة بعدم استئناف الحرب بعد استعادة الرهائن، كما حدث في مرّات سابقة، وبأن نتنياهو ملتزم بتنفيذ خطّة ترامب بجميع بنودها العشرين، أي باعتبارها وحدة متكاملة ومترابطة، لا خطّة مكوّنة من مراحل منفصلة يمكن تنفيذ بعضها والتنصّل من المراحل التالية.
الآليات المتضمّنة في هذه الخطّة مترابطة ومتداخلة ويصعب فصل بعضها عن بعض، ما يعني أنها لن تتمكّن من تحقيق أهدافها إلا إذا عملت آلياتها بشكل متناسقٍ ومتناغمٍ ومتوازٍ، فالحكومة التي سيعهد إليها تولي مهمة إدارة قطاع غزّة في المرحلة الانتقالية، ينبغي أن يكون تشكيلها فلسطينياً خالصاً ومن خبراء مشهود لهم بالكفاءة والنزاهة. ولأنها لا تستطيع مباشرة مهامها ووظائفها إلا في ظلّ حالة أمنية مستقرّة، ينبغي أن تبدأ القوات الدولية التي ستشكّل لهذا الغرض بممارسة مهامها على أرض الواقع بالتوازي مع تشكيل الحكومة. ولأن الحكومة والقوات الدولية لا تستطيعان ممارسة المهام الموكلة إليهما إلا إذا كان قطاع غزّة بأكمله خالياً من أيّ وجود للجيش الإسرائيلي، وإلا اعتبرت خاضعة لسلطة الاحتلال وتعمل تحت إمرته، فمن الطبيعي والمنطقي أن يتم الاتفاق أولاً على جدول زمني لتحقيق الانسحاب الكامل للجيش الإسرائيلي من قطاع غزّة في فترة قصيرة للغاية، وألا تبدأ قوات حفظ السلام الدولية والحكومة في مباشرة مهامهما إلا بعد الانسحاب الكامل للقوات الإسرائيلية من قطاع غزّة. ولأنه يفترض أن تعمل جميع هذه الآليات تحت إشراف (وتوجيه) “مجلس سلام”، يتولّى ترامب رئاسته ويشارك فيه توني بلير وآخرون، ينبغي أن تحدّد بدقّة اختصاصات وسلطات ونطاق الصلاحيات الموكلة إلى هذا المجلس، وهو ما أغفلته الخطّة تماماً. خصوصاً أن تشكيله لم يحدّد في الخطّة، والأرجح أن يتولّى ترامب بنفسه اختيار أعضائه بعد التشاور مع صديقه نتنياهو.
على صعيد آخر، تتضمّن خطّة ترامب بنوداً تشير إلى دور ما تلعبه السلطة الفلسطينية “بعد إصلاحها” (البند 16)، وإلى “ظروف قد تتهيأ لمسار موثوق نحو تقرير المصير الفلسطيني وإقامة الدولة” (البند 19)، وإلى “حوار بين إسرائيل والفلسطينيين، ستتولّى الولايات المتحدة إطلاقه، للاتفاق على أفق سياسي لتعايش سلمي ومزدهر” (البند 20)، غير أن هذه الإشارات المتفرّقة صيغت في عباراتٍ غامضةٍ وفضفاضة، ليست معروفةً الجهة المنوط بها تقييم الإصلاحات التي على السلطة الفلسطينية القيام بها وتقرير ما إذا كانت هذه الإصلاحات تستجيب للشروط والمعايير المطلوبة، ومن الذي سيحدّد متى سيتاح للشعب الفلسطيني تقرير مصيره، ومع مَن من الفلسطينيين سينطلق الحوار الذي ترعاه الولايات المتحدة.
تمكُّن الأطراف المشاركة في مفاوضات شرم الشيخ من التوصّل إلى اتفاق نهائي حول النواحي الإجرائية المتعلّقة بصفقة تبادل الأسرى، وهو ما أعلنه الرئيس ترامب بنفسه في موقعه بوسائل التواصل الاجتماعي مساء يوم الأربعاء الماضي (8/10/2025)، يعدّ خطوة مهمة نحو وقف إطلاق النار في غزّة، وللبدء بدخول “خطّة ترامب للسلام في الشرق الأوسط” حيّز التنفيذ، لكنها لا تكفي لضمان تطبيقها بالكامل، خصوصاً أن بعضهم يرى أن هدفها الحقيقي هو وضع قطاع غزّة تحت وصاية شخصية للرئيس ترامب، الذي يبدو أنه ما زال يحلم ببناء “ريفييرا شرق أوسطية” في أرض يسيل لها لعاب مطوّر عقاري مخضرم.
لن تنجح خطّة ترامب في حلّ الصراع المزمن في الشرق الأوسط إلا إذا تعاملت مع الضفة الغربية وقطاع غزّة باعتبارهما كياناً واحداً، وأصبح هدفها وغايتها النهائية، بعد استعادة الرهائن، إقامة دولة فلسطينية مستقلّة عاصمتها القدس الشرقية في كامل الأراضي المحتلة عام 1967.