كورونا.. علامة فارقة في طريق العولمة

إميل أمين

بعد بضعة أسابيع من تفشي فيروس كورونا المخيف حول العالم، يكاد الناظر للمشهد العالمي أن يشعر كأن حرباً عالمية ثالثة قد انطلقت وبشكل غير متوقع، الأمر الذي ترك تأثيرات سلبية على مناحي الحياة كافة سياسيا واقتصاديا اجتماعيا وإنسانيا.

الأمر الذي جعل البعض يتساءل بصدق: “هل ردود الفعل تتجاوز في واقع الأمر قضية فيروس جاءت من قبله الفيروسات، وانتشرت في أوقات سابقة عنه الأوبئة الفتاكة، ومع ذلك لم تعرف البشرية مثل هذا الذعر غير المبرر وغير المفهوم؟

مؤكد أننا لسنا بصدد الحديث عن مؤامرة كونية، وإن كانت المؤامرة في واقع الحال تعرف اليوم بأسماء أخرى كالاستراتيجيات التي تبقى واضحة في عيون أصحابها، يصلون إليها تارة  بطريق مباشر عن طريق الحروب العسكرية والعقوبات الاقتصادية،  ويسعون إليها سراً مرات أخرى من خلال الالتفاف حول تضاريس الواقع  الجيوبولتيكي العالمي.

ما رأيناه في الأيام والأسابيع الأخيرة في واقع الأمر ترك انطباعا سياسيا أوليا حول مدى هشاشة النظام الدولي العالمي من حيث علاقة دول العالم بعضها ببعض، إذ تبدو الشكوك أول الأمر وآخره هي المتحكمة في المشهد وليس الثقة بين الأمم والشعوب.

أول انطباع خلفه كورونا عند الكثير من النخبة وكذا العوام على حد سواء هو القول إن ما جرى  ويجري هو أمر مقصود ومتعمد من خلال حرب بيولوجية لا تداري ولا تواري الهدف الرئيس منها هو إفشال التجربة الصينية القائمة والقادمة بخطى حثيثة في طريق القطبية الأممية، وقد ارتفعت الأيادي عالية جدا لتشير إلى أن الولايات المتحدة  الأميركية هي السبب الرئيس وراء الأزمة، وأن النتائج والمحصلة النهائية للفيروس سوف تصب في صالح استراتيجيتها الأشهر “القرن الأميركي”، تلك التي وضع لبناتها  المحافظون الجدد في نهايات تسعينات القرن الماضي.

غير أن هذا السيناريو لا يمكن أن يكون صحيحاً بالمطلق ، لأكثر من سبب، فبداية  لقد وصل الفيروس إلى الداخل الأميركي بالفعل، وهناك مخاوف من استفحال انتشاره،  ولو سعينا في أثر بعض الخبراء المتخصصين في علوم الفيروسات لتبين لنا أن هناك الملايين من الأمريكيين سوف يصابون  بهذا الفيروس.

 فيما الأمر الآخر يتمثل في الخسائر الاقتصادية التي ستحل بالاقتصاد الأميركي فالصين أكبر مستثمر في أذونات الخزانة الأميركية، وحال اضطراب المشهد في الداخل الصيني فإن الصينيين سوف يسارعون إلى سحب استثماراتهم وودائعهم المالية كافة، مما سينعكس سلبا على أوضاع الدولار العملة الدولية الأكثر رواجا حول العالم حتى الساعة؟

غير أنه وعلى الجانب الآخر أي الصين نجد رواية مثيرة للشك والجدل بنفس القدر، حيث يرى البعض أن الصين ربما هي من كانت وراء تفشي الفيروس،  وهو كلام يبدو للوهلة الأولى غير معقول أو مقبول، لكن أصحابه وهم ليسوا من أنصار نظرية المؤامرة، لديهم تفسير عقلاني من وجهة النظر الاقتصادية،  تفسير يذهب إلى أن الفيروس وانتشاره  قد تسبب وسوف يتسبب في المزيد من رحيل المستثمرين الأجانب،  وعليه فإن الصين سوف تقوم بشراء تلك الأصول بأثمان بخسة، وتحقق من وراء ذلك أرباحاً خرافية .

 أنصار هذا الرأي يؤكدون أن الصين فعلت ذلك عامدة  متعمدة، والقصد من وراء الأمر هو الحصول على أكبر مردود مالي يدعم توجهها للاستثمار، بل للاستيلاء اقتصاديا على قارتين من قارات العالم، إفريقيا وأميركا اللاتينية، حيث الفرص المتاحة في أراض بكر، وبنية تحتية تحتاج إلى أكثر من مئة عام من العمل، إضافة إلى  وجود الكثير من المواد الأولية في تلك الأراضي، مما يعني إضافة حظوظ جديدة للصين لكي تتسنم قمة العالم.

هل هذا سيناريو صادق بالمرة؟

 في الواقع لا يمكن أن يكون ذلك كذلك بالمرة،  ذلك أنه لو ثبتت صحته لفقدت الصين مصداقيتها وموثوقيتها في عيون كل دول العالم، سواء تعلق الأمر بالاستثمار في الداخل الصيني، أو في الخارج أي في دول العالم المختلفة.

أضف إلى ذلك أمراً حيوياً وخطيراً ومثيراً آخر وهو وفاة بضعة آلاف من الصينيين، ما يجعل العالم برمته يفقد ثقته في الصين كحكومة تقدمية، تحترم حقوق الإنسان،  وتسعى في طريق ترقية شعبها وقيادته إلى مدارك أعلى ومدارات أرفع على طريق الأنسنة الجديدة.

 إنها إذاً حالة انعدام الثقة بين دول العالم لا سيما الأقطاب الكبرى، وقد تجلت في الأسابيع الماضية، وبدا أيضا أن هناك تبعات تتعلق بحال ومآل الدولة العصرية بشكلها  الويستفالي .. ماذا نعني بذلك؟

باختصار غير مخل أكدت أزمة كورونا على أن مفاهيم كانت كفكرة  الكيانات المعولمة التي باتت أكثر قدرة وتأثير على حياة الشعوب بأكبر قدر وأكثر نفوذ من الدول التقليدية التي جرت بها المقادير عبر مئات السنين مؤخراً، فعلى سبيل المثال باتت منظمة الصحة العالمية كياناً له من القوة والمنعة والحصانة ما يتجاوز سلطة أي قيادة سياسية في وسط هذه الأزمة،  ولم يعد أحد قادراً  على مخالفة لوائحها وتعليماتها بشكل أو بآخر، كما أن الجميع في قارات الأرض الست بات مطالباً بتقديم ما لديه من معلومات بشفافية ووضوح غير مسبوقين، وإلا فإن هناك عقوبات عالمية سوف تفرض من تلقاء نفسها على من يحاول خديعة الآخرين، سواء عبر تقديم معلومات مغلوطة أو من خلال عدم تقديمها أصلا.

 أمر آخر من الاستحقاقات السياسية التي أفرزتها أزمة كورونا موصول بسياق العولمة، والتي بات العالم معها حائرا لاسيما إزاء تعريفها وهل هي شر مطلق أم خير كامن وكامل؟

مؤكد أن البشرية قد عرفت طوال قرون خلت أنواعا مختلفة من الأوبئة الفتاكة كالطاعون والجدري والكوليرا  والسل، ولم يكن العلم قد تقدم إلى  هذه الدرجة التي هي عليه الآن، كما لم تكن الأمصال الحديثة قد وجدت طريقها إلى البشرية، وفي ذلك الإطار كانت الأوبئة محلية أو في أسوأ الأحوال إقليمية، فما كان يضرب أوروبا،  حكما لم يكن يؤثر في آسيا أو إفريقيا، ناهيك عن أميركا الجنوبية أو الشمالية، فقد كان العالم وقتها جزرا منعزلة بعيدة عن بعضها بعضاً.

هذا المشهد تغير الآن مرة وإلى الأبد، وتجاوز ما ذهب إليه عالم الاجتماع السياسي مارشال ماكلوهان من أن العالم بات قرية صغيرة فإذ بنا نجد أنفسنا بمواجهةِ “حارة كونية”، سواء عبر الانتقال من قارة إلى قارة، ومن موضع إلى  آخر حول الكرة الأرضية جسمانيا، أو على  صعيد التواصل المعلوماتي والمعرفي عبر نقرات خفيفة على  الفارة، أو بلمسات على الهواتف الذكية.

ومع الخوف الذي تسببت فيه كورونا، يكاد العالم يعود إلى  سيرته الأولى .. دول مغلقة حدودها في وجه بعضها بعضاً … دول أقرب إلى الجزر الصغيرة المترامية بعيدا، وعلى غير المصدق النظر إلى  حال مطارات العالم والاضطرابات الحادثة هناك.

هل يمكن أن تكون الآثار المترتبة على  كورونا علامة فارقة في طريق العولمة؟

الجواب حكماً مرهون بقادم الأيام وإلى أين تمضي الأزمة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى