موقف مصر لن يتغير من قطر

محمد أبو الفضل

راجت معلومات بشأن حدوث تغيّر طفيف على شكل العلاقة بين مصر وقطر مؤخرا، في محاولة أراد أصحابها زرع فتنة بين دول الرباعي العربي، مصر والسعودية والإمارات والبحرين. ربما كانت هناك محاولة حقيقية للمصالحة السياسية الجماعية، غير أن الدوحة أجهضتها عندما حرفتها عن أهدافها وصورت الأمر كأنه انتصار لها.

منحت الطريقة الهادئة التي تدير بها القاهرة مفاصل علاقاتها الخارجية الفرصة لبعض الدوائر للهمس بعدم استبعاد عقد مصالحة منفردة مع الدوحة. استغل هؤلاء الحذر والتريث والصبر الذي يغلب على كثير من الخطوات المصرية. وفهم البعض رسائل الصمت على أنها ترتيب ضمني لتطور ما. ولعبت رغبة مصر الدائمة في تجنب التصعيد مع الدول العربية دورا في إضفاء قدر من الصدق على حديث المصالحة السوريالية.

تجاهل من روّجوا لهذا الأمر، همسا أو صخبا، أن ما بين البلدين ليس مجرد خلاف عابر، بل تباين يمسّ عصب ومحددات الأمن القومي، يحتاج تنقية واضحة لرزمة كبيرة من الحسابات، بعد أن أسهمت قطر بدور فاعل في دعم القوى المتطرفة التي حاولت التأثير سلبا على الاستقرار المنشود داخل مصر، وجرها بالقوة إلى مربع الدول الفاشلة.

حسم الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي قبل أيام الجدل البيزنطي حول تفكير القاهرة في تجاوز عقبة الدوحة، بقوله “موقف قطر من النقاط الخلافية مع مصر والسعودية والإمارات والبحرين، لم يتغير.. وهناك 13 شرطا تم وضعها، وحتى الآن لم يحدث شيء”.

سحب هذا الكلام البساط من تحت الغمز واللمز بشأن تشجيع القاهرة للمصالحة دون مراعاة لكل الشروط السابقة. ووضع حدا لأقاويل شككت في استمرار تكاتف التحالف الرباعي. والأهم تأكيده أن التغير الجذري في سياسات قطر مقدمة أساسية للحديث معها عن أيّ مصالحة تأخذ في حسبانها بأن المعطيات الإقليمية والدولية تسير في مفترق طرق.

تشير حصيلة المواقف إلى مجموعة مهمة من الثوابت، في مقدمتها، أن دول الرباعي العربي على قلب رجل واحد، ومصرة على مطالبها المعلنة ولم تقدم تنازلات خفية في أيّ لحظة، ولن تنخدع في المراوغات والمناورات القطرية. وهي يقظة تجاه الحيل التي تسلكها الدوحة للإيحاء بأن هناك قواسم مشتركة سرية مع الرياض أو القاهرة.

قد تكون علاقة مصر بقطر على المستوى الشعبي لم يطرأ عليها تحول ملحوظ منذ بداية الأزمة. فثمة اعتبارات تدفع القاهرة للحفاظ على هذه المسألة، أبرزها قناعة راسخة بأن الحكام يتبدّلون ويتغيرون وينقلبون على آبائهم وتبقى الشعوب حية. وتتعامل مصر من منطلق أنها الدولة العربية الكبرى ويجب ألا تأخذ المواطنين القطريين بجريرة حكامهم، وأي رسائل إنسانية ليس بالضرورة أن تحمل معاني سياسية.

بيت القصيد أن الدوحة لا تزال تمارس دورها في التحريض ضد مصر من خلال أذرعها الإعلامية الفضائية والأرضية والورقية والإلكترونية بكل همة. ولم تتوقف عن دعم التنظيمات الإرهابية. وتمثل حاضنة رئيسية لجماعة الإخوان المسلمين وروافدها. وتزجّ بنفسها في بعض الدول المجاورة كنوع من التحدي لدور القاهرة، والتأثير على مصالحها الحيوية.

لم تتوقف التصرفات المزدوجة لقطر في الأراضي الفلسطينية، بما يزيد الانقسام بين الفصائل ويصعّب مهمة المصالحة الوطنية. ولم تتخلّ عن المتاجرة السياسية بملف المساعدات الاقتصادية المقدمة لأهالي قطاع غزة من خلال حركة حماس. وتصمم على التلاعب بالقضية الفلسطينية وحرفها عن مساراتها وخدمة أغراض إسرائيل المرحلية.

بثت الدوحة سمومها أيضا في كل من ليبيا والسودان، وهما من أهم الدول التي لها علاقة بالأمن القومي المصري. فقدمت الدعم للميليشيات والكتائب المسلحة والإرهابيين ورعت التنظيمات المتطرفة في الأولى. ويراودها الأمل في الحفاظ على دور الحركة الإسلامية في الثانية وضخ الدماء في العروق المتجمدة لأحزابها السياسية، بعد أن امتصت صدمة الارتباك التي تسبب فيها عزل الرئيس عمر حسن البشير.

تصر قطر على مساندة تركيا التي تمثل خطرا كبيرا على المصالح المصرية في شرق البحر المتوسط وليبيا. وتتعامل الدوحة مع أنقرة كحليف استراتيجي ووفرت لها قاعدة عسكرية متعددة المهام على أراضيها. ولا تتردد في أن تقدم لها أنواعا مختلفة من الدعم السياسي والإعلامي والاقتصادي. وتتبنى مفردات المشروع الإسلامي نفسه تقريبا، حيث تتوافق معها حيال المتطرفين في سوريا، وتلتقي معها عند إيران، ورافقتها إلى مؤتمر كوالالمبور لدعم قيادتها للدول الإسلامية، وعلى استعداد للذهاب معها إلى ما هو أبعد من ذلك. كل هذه الخطوات تتنافر مع تقديرات القاهرة، وتتصادم معها في محطات سياسية كثيرة. لم يتبدل شيء في أي من الملفات المصيرية، فكيف تصفح مصر عن قطر أو حتى تهادنها، وكيف تنسجم معها عند نقطة ما حاليا أو مستقبلا، إذا لم تتم تصفية القضايا الشائكة، وهل يمكن أن يتقبل الشارع المصري تضحياته في مواجهة الإرهاب لأجل عيون قطر؟

يتجاوز الخلاف بين الدولتين الكثير من الحدود المتعارف عليها ويمس مرتكزات جوهرية. فمصر التي خاضت، ولا تزال، معركة حاسمة ضد التيارات المتطرفة وصنفت الإخوان جماعة إرهابية لن تتحاور مع دولة توفر الدعم السخي لهؤلاء وتعتبرهم جزءا من المفردات الحاكمة لخطابها وتصوراتها السياسية.

تندرج هذه الحرب ضمن المعادلات الصفرية الشهيرة التي يُنظر فيها إلى مكاسب طرف على أنها خسائر حتمية للطرف الثاني. بالتالي فأي حديث عن مصالحة بين القاهرة والدوحة في هذه الأجواء ضرب من الخيال، لأنه ببساطة يهز مصداقية النظام المصري وسط حلفائه؛ السعودية والإمارات والبحرين، ويؤثر سلبا على مسيرته الداخلية في مجال تقويض الإرهاب.

أصبحت مكافحة الإرهاب في المنطقة من الشواغل الرئيسية التي تؤرق الدولة المصرية، وتحاول دفع المجتمع الدولي نحو اتخاذ مواقف حاسمة من القوى الراعية له. وأي تقارب إيجابي مع قطر قبل أن تثبت براءتها وتتخلى عن روابطها الوثيقة مع الجماعات المتشددة يرخي بظلال قاتمة على مكانة القاهرة في حرب لن تقبل القسمة على اثنين.

يصعب الانفتاح على الدوحة وهي لم تقدم البراهين اللازمة التي تتجاوب في مضمونها مع مطالب الرباعي العربي. ويصعب أكثر أن يُقْدم النظام المصري على مبادرة إيجابية مع قطر وهو يتخذ موقفا حازما من تنظيمات الإسلام السياسي. فالعلاقة مع الدوحة مرتبطة بسلسلة طويلة من الحركات والقضايا المتشعبة. ولذلك من الضروري أن تكون هناك حلول جماعية وليست أحادية.

لن يتغير موقف مصر من قطر وهي تدس أنفها في بعض المجالات الحيوية القريبة، ولا بد أن تعلن بوضوح إبراء ذمتها من الكيانات الوهمية التي تصنعها وتسعى إلى تضخيمها عمدا، وترفع يدها تماما عن كل ما يوفر غطاء معنويا للقوى المتشددة، وتوقف تدخلها السافر في الشؤون الداخلية.

سوف يظل موقف الرباعي العربي معلقا في رقبة الدوحة حتى تنفذ شروطه، بعد أن كبلت نفسها بقيود صارمة مع محور تركيا وإيران والإخوان، والجماعات المتطرفة التي تنشط في ليبيا والسودان وسوريا، ما يجعل تغيير موقف مصر عملية صعبة المنال.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى