وصاية عربية على غزّة؟

بات واضحاً منذ فبراير/ شباط الماضي أنّ رئيس حكومة دولة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، عاقد العزم على إفشال التفاوض غير المباشر مع حركة حماس، وأنّ تل أبيب تحظى بغطاءٍ من إدارة دونالد ترامب، وقد تجلى هذا في غضّ واشنطن النظر عن التنصّل الإسرائيلي من اتفاقٍ رعاه ترامب عشية عودته إلى البيت الأبيض. لقد سمحت واشنطن لنتنياهو أن يخرق اتفاقاً رعته هي وتفاخرت به، ومغزى ذلك أنّ هذه الإدارة على استعداد لتقديم “تنازلاتٍ” لتل أبيب بشأن الحرب على غزّة، لكنّها غير مستعدّة لفرض “تنازلاتٍ” على شريكها. وفي النتيجة، وصلنا إلى ما وصلنا إليه من تطابقٍ في السياسات بين ترامب ونتنياهو، وكان ذاك قد شكا مرّة من تلاعب هذا به. والنتيجة الحسيّة مواصلة جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية. وبينما كان ترامب يطالب “حماس” بمزيد من “التنازلات”، فقد أصبح يجاهر بأنّ الأولوية هي القضاء على هذه الحركة. وقد دلّت الأسابيع الثلاثة الماضية أنه معنيٌّ بإنهاء الحرب على أوكرانيا، خلافاً للحرب على غزّة التي باتت في موقع متأخّر من اهتماماته، وهو ما يجعل الوضع في القطاع برمّته في حال انسداد. ويلاحظ، في هذه الآونة، أنّ الأطراف العربية المعنية تكتفي بالجهد الذي يبذله الوسيطان، المصري والقطري، ولكن من غير أيّ ضماناتٍ أو تسهيلاتٍ من واشنطن أو مجلس الأمن تكفل الوصول إلى نتيجة مقبولة. وفي المحصلة، يتلاعب نتنياهو بترامب، والأخير يتلاعب بآمال إحلال الهدوء في القطاع المنكوب.
أمام هذا العبث الأسود، آن الأوان لوقفة مع الذات، لإعادة فحص مسار التفاوض؛ فواشنطن تتفاوض بصورة غير مباشرة مع “حماس”، وتريد، في الوقت نفسه، القضاء عليها، تتفاوض وتغذّي آلة الحرب الإسرائيلية، وتدعم بروباغندا نتنياهو وحكومته، وتستغل خلال ذلك خلافات سابقة ومتجدّدة بين الحكومات العربية والحركة، لتسويغ إطالة الحرب، بما تشتمل عليه من استهداف منهجي للمدنيين ولموارد الحياة الشحيحة في القطاع، سعياً إلى القضاء على مصادر الحياة ودفع السكان دفعاً، وتحت ضغط غريزة البقاء إلى المغادرة. وهذا الوضع، بمشتملاته المروّعة، غنيٌ عن الشرح، بل لا يأتي المرء بجديدٍ عند التطرّق إليه، فوسائل الاتصال والتواصل تفيض على مدار الساعة بشواهد التجويع وقتل المجوّعين ونسف ما تبقى من بنايات منتصبة على رؤوس أصحابها، وقتل من يؤمّنون مسار شاحنات المساعدات بعد التقليل من عدد هذه الوسائط إلى أدنى حد، والوضع مرشّحٌ لمزيدٍ من التفاقم والكوارث، مع احتلالٍ لا يمتلك ذرّة واحدة من القيم الإنسانية، ويرى في قتل الآخرين حياةً له.
أمام ذلك، آن الأوان بل تأخّر لوقفة مع الذات لإعادة فحص مسار التفاوض، والاستقواء مجدّداً بالعمق العربي والإسلامي الذي لا غنى عنه. لقد سبق لكاتب هذه الكلمات أن دعا على صفحات “العربي الجديد” إلى أن تتولى مصر وقطر التفاوض بصورة مباشرة، وفق تفويض فلسطيني صريح من السلطة والفصائل الفلسطينية (مقترح برسم حماس… استراتيجية للتفاوض تُنقِذ غزّة وأهلها، 24/3/2025)، وبما يسحب ذريعة الولايات المتحدة في التمنّع عن مواصلة التفاوض مع حركة حماس. وبحيث يجري التفاوض بين دولٍ تحترم تعهداتها وتواقيع مفاوضيها مع رعاية دولية. والمقترح ما زال مطروحاً، وواقع الحال على الأرض (وفي الجو والبحر) يُزكّيه، وهو قابلٌ، بطبيعة الحال، للتعديل، بحيث تتولى الأطراف العربية مسؤوليتها السياسية والإنسانية في وضع حد لهذه الكارثة. ونعلم أن الجانب العربي عقد نحو خمس قمم منذ اندلاع الحرب، غير أن ذلك الجهد العربي بقي بلا طائل، فقد جرى من جهة إيكال المسألة برمّتها إلى الجانب الفلسطيني، ومن جهة ثانية أُحيلت المسألة إلى “المجتمع الدولي” من أجل الضغط على حكومة نتنياهو. ولم تفلح هذه الخيارات في لجم آلة الحرب الإسرائيلية، ولا في حمْل واشنطن على اتّباع الحد الأدنى من النزاهة السياسية في التعامل مع هذه الحرب الوحشية. وحالياً، على الجانب الفلسطيني، ممثلاً بالسلطة وجميع الفصائل، إجراء ما يلزم من اتصالاتٍ مع الأطراف العربية والإسلامية: مصر والأردن ودول الخليج وتركيا، من أجل تفويض مصر وقطر أساساً باعتبارهما وسيطين يُمسكان بالملف، بالتفاوض المباشر، مع إبقاء الباب مفتوحاً لمشاركة دول عربية في هذا الجهد، على النحو الذي يجري التوافق عليه تحت مظلّة جامعة الدول العربية. وبحيث يكون هدف التفاوض وضع نهايةٍ لهذه الحرب الغاشمة، والسهر على الإنقاذ والتعافي، مع إحلال قوات عربية ودولية ذات تفويض محدّد، وبموافقة جميع الأطراف. ومن قد يرى في هذا المقترح إحلالاً لوصاية عربية، فالردّ على ذلك أنها وصاية مؤقّتة (إذا صحّت تسميتها بهذا الاسم) مُرحّب بها من كل غزّي يكابد أهوال الجحيم، وتمثل بديلاً صالحاً ومؤقتاً لوجود أعداء الإنسانية المدجّجين بالأسلحة والضغائن العمياء. … يحتاج هذا الوضع الضاغط بصورة عاجلة مبادرات فلسطينية وعربية وإلى “تدخّل” عربي ملموس، لكسر الحلقة المفرغة، ولوضع حد للفظائع اليومية ولمنع التهجير.
كشفت صحيفة واشنطن بوست، قبل أيام، نقلاً عن مسؤولين أميركيين، أن وزارة الخارجية الأميركية أقالت كبير مسؤوليها الإعلاميين المختصّ بالشؤون الإسرائيلية الفلسطينية، على خلفية خلافات متكرّرة بشأن توصيف سياسات رئيسية لإدارة دونالد ترامب، وأضافت أن الخطوة تزامنت مع نقاش داخلي بشأن بيان رسمي تضمّن عبارة “نحن لا ندعم التهجير القسري في غزّة”. وبحسب مذكرةٍ استندت إليها الصحيفة، رفضت قيادة وزارة الخارجية الصياغة المقترحة، ووجّهت بحذف العبارة من البيان مع إقالة المسؤول. ومغزى ذلك واضح، أن مشروع التهجير القسري ما زال على أجندة هذه الإدارة، فالمسألة إذن تتعلق بصراع أبناء القطاع من أجل البقاء، وعدم قذفهم في لُجّة التهجير. وحتّى لا يكون هذا الخيار الوحيد المتاح أمام الناس من أجل التشبث بفرصة الحياة، والمسألة في هذه الآونة ليست صراعاً على الحكم بين السلطة و”حماس”، وأن تتقدّم مصلحة الشعب بمجموعه على كل مصلحة فئوية أخرى، فالبقاء من أشكال المقاومة ودحر لمخطّطات العدو في توسيع الإبادة، ومن أجل منع تل أبيب وواشنطن من مواصلة اللعب والتلاعب إلى ما لا نهاية بمسار التفاوض، واستغلال هذين الشريكَين الوقتَ في اقتراف جرائم يومية، وكما تثبت ذلك تصريحات مسؤولين أمميين وتقارير المنظمات الدولية، وما لا يُحصى من شواهد بصرية ووثائق مرئية ومسموعة.