إنهاء لعبة التخفي بين النهضة والجُملي

الكتلة : أمين بن مسعود

المشهد البرلماني التونسيّ عقب تأسيس “الكتلة الديمقراطية”، لن يكون كما قبله بأيّ صفة من الصفات. ليس فقط لأنّ الكتلة ستكون بيضة القُبان في تشكيل الحكومة القادمة، بل أيضا لأنّها ستكون لها كلمة الفصل في كينونة وطبيعة المُعارضة البرلمانية.

بعبارة أدقّ، مع إعلان ولادة الكتلة الديمقراطية، التي تضمّ 41 نائبا، وهم نواب “حركة الشعب” و”التيار الديمقراطي” و4 مستقلين، فإنّ الكتلة ستفرض على الحبيب الجُملي رئيس الحكومة المكلّف، والنهضة باعتبارها الحركة السياسية التي كلفته، حسم خياراتهما الكُبرى وعدم الاستثمار في “رماديّة الفصل بين المسار الحكومي والبرلمانيّ”. فإمّا حكومة سياسية بنَفس “إصلاحي ثوريّ” ترضخ لشروط الكتلة الديمقراطيّة وإمّا حكومة “سفينة نوح” بلا لون ولا رائحة ولا طعم، وهو ما ترفضه الكتلة جُملة وتفصيلا.

وبهذا تقطع الكتلة الديمقراطية على الحبيب الجملي، جولة المشاورات الموسعة والعقيمة التي استهلكت الكثير من الوقت والجهد، بل وستفرض عليه مُقاربة أخرى لفلسفة تشكيل الحكومة، تتراوح بين التحالفات الكُبرى للكتل البرلمانية الفائزة وبين الاتفاق على الخطوط الكبرى لبرنامج الحكومة المقبلة.

من الواضح، أنّ إعلان ولادة “الكتلة الديمقراطيّة”، جاء في ضوء مؤشرين اثنين على الأقلّ، الأوّل كامن في عدم رضى مكونيْ الكتلة، التيار الديمقراطي وحركة الشعب، عن مسار الجُملي في المشاورات وهو مسار “الورقة البيضاء” حيث لا ينطلق الأخير من مُقاربة شاملة وعريضة لعناوين الحكومة القادمة وبرنامجها بل يكتفي بالاستماع والإصغاء لكافة الضيوف.

أمّا المؤشر الثاني، فهو القفز بين حبليْ الشُركاء في الحُكومة والحُكم، من قبل النهضة والجملي على حدّ سواء، فالنهضة تريد حلفاء لها في الحُكومة يتقاسمون معها أعباء السلطة والمسؤولية، لكنّها أيضا تريد شُركاء تحت قبة البرلمان يقاسمون معها الصلاحيات التشريعية وتستعملهم لضرب عدوّها الأيديولوجي الأوّل “الدستوريّ الحرّ”.

ومن الواضح هُنا أنّ مشاورات الجملي لا تصبّ في خانة تشكيل الحكومة فقط، بل أيضا في خلق بيئة حُكم مواتية، تسمح للنهضة بتأمين غالبية في اللجان البرلمانية تفرض الطوق والحصار على “الدستوريّ الحرّ”.

والنهضة لا ترى في استمرار استعصاء انضمام التيار الديمقراطي وحركة الشعب إلى الحكومة، إشكالاً يعرقل استقطاب كتلة “قلب تونس” والتحالف مع روافد حزب النداء القديم. المهمّ بالنسبة للنهضة ألا يستفرد “الدستوري الحرّ” بالمعارضة البرلمانية، وإن كلّفها ذلك القبول بتجرّع كأس السمّ.

وهُنا بالضبط، ترفع “الكتلة الديمقراطية” الفيتو ضدّ هذه السياسات. فاعتماد حركة النهضة لقلب تونس كـ”ورقة لقلب الطاولة” على الحلفاء المفترضين، لا يتماشى وسياسة الوضوح التي تطالب بها الكتلة الديمقراطيّة.

وهنا يمكن أن نفهم المُشاورات المفتوحة من قبل الجُملي على كافة مكوّنات المشهد السياسيّ كـ”عزف” مكمّل لأوركسترا النهضة، التي تستغل انفتاح الجملي على قلب تونس وإصراره على الاجتماع بقيادته مرتين على التواليّ، لا كسعي لتدوير الزوايا واختبار البدائل، بل كإعلان نوايا من النهضة لقبول التحالف مع قلب تونس سواء تعلّق هذا التحالف بتشكيل الحكومة أو بالتعاون في البرلمان.

لُعبة التخفي بين النهضة والجُملي، حيث ترفع النهضة فيتواتها المبدئية ضدّ بعض الأطراف السياسيّة، بينا تُرخي للجُملي الحبل لاستقراء التحالفات الممكنة وإطلاق بالونات اختبار بين الكتل الكبرى، مرفوضة جملة تفصيلا من قبل “الكتلة الديمقراطيّة” التي ستضع قواعد جديدة للمشهد السياسيّ والبرلمانيّ خلال الولاية التشريعية القادمة.

عَيْنُ حركة النهضة على المُعارضة البرلمانيّة، وهي تُريد تقسيم اهتماماتها بين الحُكومة والحُكم، فهي تريد حُكومة بحلفاء أقوياء نسبيا يقاسمونها المسؤوليات والصعوبات، وتريد في نفس الوقت شُركاء في البرلمان تتوافق معهم في المصالح وفي درء كابوس “الدستوريّ الحرّ” والحيلولة دون حصوله على رئاسة أيّ لجنة برلمانية، لاسيّما تلك المكفولة للمُعارضة وعلى رأسها لجنة الماليّة.

هل ستنجح النهضة في مسعاها الحكوميّ والبرلماني في قطع الطريق على الدستوريّ الحرّ؟ مؤشرات كثيرة تؤكّد وجود مشاورات متقدمة بين النهضة و”قلب تونس”، يصوّت الأخير بمقتضاها بنصف أعضائه على الأقلّ لتمرير الحكومة مُقابل حصوله على رئاسة لجنة المالية باعتباره الكتلة المُعارضة الأكبر.

وبغضّ النظر عن هذه المعطيات والفرضيات، فإنّ الأكيد أنّ الكتلة الديمقراطيّة فرضت بتحالفها على النهضة خيارين لا ثالث لهما. إمّا أن تكون الكتلة الأقوى في المُعارضة، وإمّا الصوت الأقوى في تشكيل الحكومة في حال انضمّ لها “ائتلاف الكرامة” و”تحيا تونس”. وهي بهذا تؤكّد أنّها لن تكون “مُعارضة المعارضة” ولا “الحليف الخاضع” كما تريد النهضة.

بتأسيس الكتلة الديمقراطية، يكون المشهد السياسيّ البرلمانيّ قد تأثّث بصيغة أوضح، ويكون معه اليسار التضامنيّ (لا الأيديولوجي) قد بدأ في الانغراس والتموقع في المشهد السياسي التونسيّ، وهي تجربة يجب تثمينها. فلا ديمقراطية حقيقية دون يسار ديمقراطيّ ولا ليبرالية سياسية واقتصادية دون مطلبية اليسار في الدولة التضامنية.

يبقى أنّ لتجربة “الكتلة الديمقراطية” محاذير لا بد من الانتباه إليها مليّا، على رأسها نقاط الاختلاف بين “التيار” و”الشعب” حول القضايا الإقليمية العربية وعلى رأسها المسألة السورية تحديدا والمصرية والليبية بدرجة أقلّ… واستيعاب دروس الماضي القريب، حيث تجارب التحالفات والتكتلات كثيرا ما تتكسّر في تونس على حجرة حروب الزعامات ومكاسرات الشخصنة، الأمر الذي يفرض كثيرا من نُكران الذات ومن تأصيل المشروع وتأسيس البدائل، فالمتربصون بالكتل كثيرون والمستثمرون في الصراعات عديدون سواء في البرلمان أو خارجه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى