الدبيبة في إعادة التموضع، شرقا فشرقا

علي الصراف

ليست دوافع النجاة وحدها هي التي تحرّك رئيس حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها عبدالحميد الدبيبة نحو شرق ليبيا، ثم شرقا نحو الإمارات.

انغلاق طرق الخطيئة، هو الذي دلّه في النهاية على الصواب. فأصبح البقاءُ ضرورة تفهمها البراغماتية جيدا.

هناك استعصاء داخلي، كان يجب أن يجد انفراجا. وثبت أن معاندة الضغوط الإقليمية والدولية، فضلا عن الحقائق على الأرض، أمر لا ينفع. والاستمرار فيه كان سيؤدي إلى نتائج سلبية كثيرة، سواء على مستوى قدرة حكومته على البقاء، أو على مستوى القبول الشخصي به كرئيس للحكومة.

شرق ليبيا، والمشير خليفة حفتر، رقم لا يمكن تجاوزه في معادلة الاستقرار. ولئن تمكن الدبيبة من إطالة عمر حكومته رغم فشلها في إنجاز استحقاق الانتخابات البرلمانية والرئاسية، فهو يعرف أن هذا وضع لا يمكنه أن يدوم. كما لا يمكن تجاهل الإرادات الإقليمية والدولية التي تريد أن تضع حدا للأزمة.

الجهود المضنية التي بذلها المغرب ومصر على امتداد عدة سنوات من أجل التقريب بين الفرقاء المتنازعين، أرست تفاهمات لا يمكن تجاوزها لمجرد أن هناك عصابة ميليشيات في طرابلس تريد أن تستبقي أوضاع الانقسام قائمة إلى الأبد، أو لأنها تخشى من فقدان نفوذها إذا ما توحدت مؤسسات البلاد، الأمنية والعسكرية منها على وجه الخصوص.

فشل “اللقاء التشاوري” في طرابلس الذي دعت إليه نجلاء المنقوش، بوصفها “رئيسا” لمجلس وزراء الخارجية العرب، قدم إشارة واضحة على محدودية الاعتراف العربي ليس بهذه الرئاسة، بل بحكومة الدبيبة ككل.

كانت تلك الدعوة مقامرة، انتهت بخسارة مخزية. فأصبح لزاما على الدبيبة أن يعيد النظر بموطئ قدميه.

الرهان على تركيا، في مواجهة كل الدنيا، كان بحد ذاته مقامرة أشدّ هولاً. ليس لأن تركيا تستعدي الجميع (دول المنطقة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة) في مساعيها لفرض الهيمنة على ليبيا، فحسب، بل لأنها تستعدي الليبيين أيضا وتحاول أن تستغفلهم، وتستغل ضعف مواقع ميليشيات السلطة في طرابلس من أجل أن تفرض عليهم اتفاقات جائرة بالمعنى الثنائي، وجائرة بالمعنى الإقليمي، وتعتدي على حقوق دول أخرى.

إرسال قوات وإقامة قواعد عسكرية وضخ موجات من المرتزقة، لم يكن سبيلا يستحق الرهان عليه، لأنه سلوك عدواني وفظ بكل المعايير السياسية بالنسبة إلى شعب يحترم استقلال بلاده ويحترم سيادتها على أراضيها.

الليبيون، باستثناء الميليشيات الإخوانية، أجمعوا منذ أن تكرّست توافقات لجنة 5+5 العسكرية، على أنه لا مستقبل للقواعد الأجنبية في البلاد، ولا بقاء للمرتزقة الذين يتعين ترحيلهم فورا.

الرهان على رجب طيب أردوغان كان هو نفسه رهان خاسر أيضا. لم تكن تركيا بحاجة إلى زلزال عنيف، لكي يعرف الأتراك أن إدارة أردوغان ارتكبت كل الأخطاء، الممكنة وغير الممكنة، في مواجهة الأزمات الاقتصادية المتكررة التي عانتها البلاد، وفي العلاقات مع دول الاتحاد الأوروبي، وهي الشريك التجاري الأول لأنقرة، وفي العلاقات مع الولايات المتحدة. حتى أصبحت تركيا، الدولة الحليف والعضو في الحلف الأطلسي، تتعرض لعقوبات وتُفرض عليها قيود من جانب حلفائها بالذات. وفضلا عن حملات الاعتقالات المتوالية، ذات الطبيعة القراقوشية، التي أودعت في السجون عشرات الآلاف من الصحافيين والفنانين والكتاب والسياسيين والمعلمين والقضاة والمحامين، فقد مهد أردوغان السبيل لأجل إعادة انتخابه، بعمل تعسفي آخر هو حرمان منافسه الرئيسي رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو من الترشيح، بمحاكمته وإصدار حكم بسجنه لسنتين بتهمة “إهانة مسؤولين” قال فيهم إنهم أغبياء، فصار من الجائز أن يدخل السجن.

القدر كان بالمرصاد له ولشركات البناء التابعة أو الموالية لحزبه. سلطة أردوغان هي في عين التاريخ سلطة بين زلزالين. زلزال العام 1999، كان هو الذي جاء به إلى السلطة في العام 2003، بسقوط حكومة بولنت أجاويد التي اُتهمت بالفشل. وزلزال العام 2023، الذي سيطيح به هو.

لا شك أن الدبيبة بحسه البراغماتي صار يعرف إلى أين تمضي النهايات. فأرسل وفودا للتفاوض مع المشير حفتر. كما أرخى العنان للقاءات محمد المنفي رئيس المجلس الرئاسي مع حفتر، وللقاءات خالد المشري رئيس المجلس الأعلى للدولة برئيس البرلمان عقيلة صالح، قبل أن تحط به الرحال في الإمارات. ولكن ليس لأنها خصم لأي أحد، بل لأنها واسطة الخير الوحيدة التي يمكنها أن تفتح له بابا لإعادة التموضع، فتساعده على تسوية رهاناته الفاشلة، من دون أن يخرج منها مهزوما.

الأساس في الذهاب إلى الإمارات، لا علاقة له بالتنافس مع أي دور من أدوار الآخرين. الأساس هو أن الرهانات الفاشلة (سواء على إطالة أمد الأزمة أو الرهان على دعم المرتزقة أو الانجرار وراء المسالك الأردوغانية الفاقعة)، كان لا بد في النهاية أن تسفر عن فشل.

يُخيّل للمرء، أن ذلك الأساس إذ رأى ما تمضي إليه تلك الرهانات، فقد كان بغير حاجة إلى شيء أكثر من مرور الوقت لتتضح نتائجها، ويثبت للمتورّطين بها أنها مخزية.

يريد الدبيبة أن يبقى رئيسا للحكومة لمدة أطول من الزمن. لا توجد مشكلة في ذلك لمن طالت به القدرة على الانتظار. ففي النهاية، فإن المسألة ليست مسألة مَنْ يحكم، وإنما هي مسألة كيف يمكن وضع نهاية للأزمة.

التسويات بدأت من تعيين فرحات بن قدارة رئيسا جديدا لشركة النفط الوطنية الليبية. ولن تتوقف عند تعيين وزراء جدد بالتوافق مع المشير حفتر، لتكون حكومة الدبيبة “حكومة وحدة وطنية” للمرة الأولى بالفعل. ولكن هذا ليس هو آخر المطاف.

“إعادة التموضع” بالمعنى الشخصي شيء، وبناء وضع جديد لاستئناف السيادة والاستقلال والاستقرار شيء آخر، وهو ما يتعيّن على البراغماتية الحقيقية أن تقبل به.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى