الرابحون والخاسرون في الأزمة الدولية الحالية

حميد الكفائي

لا شك أن الحروب والصراعات تلحق أضرارا بالدول التي تتورط فيها، وهي شرور، تسعى معظم شعوب العالم وحكوماته إلى تجنبها.

لكنَّ هناك أيضا مستفيدين منها، ليس بتخطيط منهم، وإنما لأن الصراعات والنزاعات والحروب تعيد هيكلة السياسة والاقتصاد والتجارة، فتنتفع منها دول، وتتضرر أخرى.

اليابان على سبيل المثال تعاني من الكساد منذ ثلاثة عقود تقريبا، بعد أن كانت ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة، قبل بروز الصين كعملاق اقتصادي جديد. وقد فشلت كل محاولات الحكومات السابقة في إعادة الحيوية للاقتصاد الياباني، لكن الصراع الأمريكي-الصيني والحرب الروسية الأوكرانية، دفعا مستثمرين كثيرين، من الهاربين من الأزمات، للنأي باستثماراتهم عن مناطق الصراع، والانتقال إلى البلدان المستقرة، وكانت اليابان في المقدمة لأسباب عديدة منها الاستقرار، والقدرة على استيعاب الاستثمارات الجديدة، وامتلاك البنى الأساسية المتطورة، وتوفر الكوادر الإدارية والعلمية الكفوءة، وإمكانية النفاذ منها إلى الأسواق الآسيوية والعالمية.

لم تستطِع اليابان التغلب على مصاعبها الاقتصادية، التي كان أبرزها الانكماش الاقتصادي ثم الركود المصحوب بانخفاض معدل التضخم، وهو نتيجة متوقعة للانكماش الاقتصادي. وفي الوقت الذي تسعى فيه بلدان عديدة في العالم لخفض معدل التضخم المرتفع، كانت اليابان تسير في الاتجاه المعاكس، وتحاول إحداث انتعاش اقتصادي يمكن أن يرفع الأسعار ويحرك سوق العمل ويحفِّز الإنفاق الاستهلاكي، الذي يقود إلى رفع معدل التضخم.

غير أن الصراع الصيني-الأمريكي، والحرب الروسية-الأوكرانية قد حفزا الاستثمار في الصناعات الضرورية، ودفعا المستثمرين إلى التفكير بالانتقال إلى البلدان المستقرة والتي تمتلك البنى الأساسية المطلوبة، والقريبة من الأسواق الآسيوية ولها علاقات دولية متطورة مع الدول المؤثرة اقتصاديا، وكانت اليابان من أهم الخيارات المتاحة. وفعلا تحرك الاقتصاد الياباني بفعل هذا التوجه الاستثماري، وبدأ معدل التضخم بالارتفاع متجاوزا، هدف (2%) الذي حدده بنك اليابان المركزي.

رئيس الوزراء الياباني، فوميو كيشيدا، أعلن في الحادي والثلاثين من أكتوبر الماضي عن حزمة من الإجراءات لتحفيز الاقتصاد بكلفة قدرها 17 ترليون يَن (113 مليار دولار)، تتضمن، بين إجراءات وتسهيلات عديدة، خفضا للضرائب. وتصف جريدة (يابان تايمز) الحزمة بأنها مثيرة للخلاف، حتى داخل الحزب اللبرالي الذي يتزعمه، وأنها تخفّض الضرائب في وقت تحتاج فيه الحكومة لرفعها، من أجل تمويل الإنفاق على التسلح ورعاية الأطفال، ما يعني أن أهدافها انتخابية وليست تنموية. كما تصفها مجلة الإيكونوميست بأنها مصممة لتعزيز شعبية رئيس الوزراء المتدنية، أكثر من تحفيز النمو الاقتصادي، وهو رأي عبَّر عنه مراقبون آخرون.

وقال كيشيدا في مؤتمر صحفي إن السنة المالية المقبلة ستشهد ارتفاعا في الأجور يفوق معدل التضخم، وهذا من شأنه أن يُخرِج اليابان من الانكماش الاقتصادي الذي تعاني منه، مضيفا “أن الجمع بين خفض الضرائب ورفع الأجور سوف يخلق وضعا يجعل مدخولات الناس أعلى من الارتفاع في الأسعار، المتوقع في العام المقبل، وعندها سيشعر الناس بتفاعل ارتفاع الأجور مع خفض الضرائب”.

وتخشى الحكومة اليابانية من العودة إلى الانكماش الاقتصادي المدمر، لذلك تعمل على الخلاص منه نهائيا، عبر البدء بدورة اقتصادية جديدة تعتمد على تحفيز الإنفاق الاستهلاكي، من خلال توفير المال اللازم لدى معظم أفراد الشعب كي يشجعهم على الإنفاق، الذي يحفز بدوره الحركة الاقتصادية في البلد.

لكن المشكلة التي يواجهها مثل هذا التوجه، والتي يمكن أن تكبح الإنفاق الاستهلاكي، هي أن تدني سعر الين أمام العملات الأخرى، الذي جعل أسعار الواردات مرتفعة، يثبِّط اندفاع المستهلكين نحو الإنفاق.

اليابانيون أطلقوا لقبا ساخرا على رئيس الوزراء كيشيدا، هو “رافع الضرائب ذو الأربع عيون”، بسبب رفعه الضرائب وارتدائه النظارات، لكنه الآن يشعر بأن هناك فرصا استثمارية يقدمها الوضع الدولي المتأزم لليابان وأن عليها استثمارها، على الأقل للتعويض عما لحِق بها بسبب الأزمات الدولية. ومهما تكن دوافع كيشيدا في خططه الاقتصادية، أو آراء منتقديه به، فإن الواضح أن الاقتصاد الياباني بدأ ينهض، والسبب الأساسي هو الصراعات الدولية، سواء بين الصين وأمريكا، أو الحرب في أوكرانيا وتبعاتها، التي جعلت من اليابان بلدا مستقبِلا للاستثمارات.

 ولا ننسى أن اليابان عانت نتيجة لارتفاع معدل التضخم في دول العالم الأخرى بسبب الحرب الروسية-الأوكرانية، لأنها تعتمد كثيرا على البضائع المستوردة، التي ارتفعت أسعارها بسبب ارتفاع تكاليف الإنتاج نتيجة لارتفاع أسعار الطاقة. كما أن انضمام اليابان إلى العقوبات الغربية على روسيا، جعلها تعزف عن النفط الروسي، وتعوضه بنفوط أخرى، مرتفعة الأسعار. وإن كانت بعض الدول المحسوبة على الغرب، كالهند، لا تمانع أن تخالف العقوبات الغربية على روسيا، فإن اليابان لا تفعل ذلك ولا تخاطر بعلاقاتها الوطيدة بالولايات المتحدة، التي تعتمد عليها في الدفاع عن أمنها وسيادتها.

دول أخرى انتفعت من الصراعات الدولية الحالية، خصوصا الحرب الروسية-الأوكرانية. فالعقوبات الغربية دفعت رؤوس الأموال الروسية والأجنبية إلى مغادرة روسيا، وهذه الأموال ذهبت إلى بلدان أخرى لا تطالها العقوبات الغربية. ويمكن معرفة الوجهة التي ذهبت إليها تدفقات الأموال من خلال تفحُّص ميزان المدفوعات. فدول مثل أرمينيا وأذربيجان وجورجيا وأوزبكستان وكازاخستان، التي كانت جزءا من الاتحاد السوفيتي حتى العام 1991، شهدت تدفقا ماليا كبيرا في حساباتها الجارية، وحساباتها الرأسمالية، ويمكن الاطمئنان إلى أن هذه الأموال جاءتها من روسيا، خصوصا وأن البيانات تخفي، متعمدةً، مصادر هذه التدفقات.

أرمينيا مثلا، كانت تعاني لثلاثين عاما من عجز في حسابها الجاري، حسب دراسة للخبير في مؤسسة (بلو بَيْ) لإدارة الأصول، تيموثي آش، نشرها المركز الأوروبي لتحليل السياسيات، لكن بيانات عام 2022 أظهرت أن لديها فائضا في حسابها الجاري. والغريب في الأمر أنها تتمتع بنمو اقتصادي تجاوز 12%، والنمو المرتفع يشجع الإنفاق على الواردات في العادة، وكثرة الواردات تولِّد عجزا في ميزان المدفوعات، التي يسجلها الحساب الرأسمالي، وليس فائضا في الحساب الجاري!

 كما إن العقوبات الغربية على روسيا اضطرتها إلى بيع منتجاتها بأسعار مخفَّضة، وقد استغلت العديد من الدول هذه الفرصة، خصوصا الدول المجاورة لروسيا، التي تصعب مراقبة حركتها التجارية من قبل البلدان الغربية التي فرضت العقوبات. السقف السعري الذي فرضته مجموعة الدول الصناعية السبع على النفط الروسي، وهو 60 دولارا للبرميل الواحد، دفع العديد من الدول، خصوصا الهند والصين، إلى استغلال الفرصة وشراء النفط الروسي بأسعار متدنية.

واردات الهند من روسيا تضاعفت خمس مرات في الفترة من أبريل إلى ديسمبر 2022، حسب جريدة (تايمز-أوف-إنديا)! وتشير التنبؤات التي نشرتها الجريدة إلى أن الاقتصاد الهندي سينمو بنسبة 6.3% خلال عامي 2023/2024، ولا شك أن الهند استفادت من الفرص التي وفرتها الأزمة الدولية. الصين أيضا انتفعت من الازمة الروسية-الأوكرانية في البداية، لكنها تضررت أكثر بسبب تدهور علاقاتها مع أمريكا وحلفائها، وكذلك بسبب تزايد التدخل الحكومي في الاقتصاد. مع ذلك فإن الاقتصاد الصيني سينمو بمعدل 5% خلال العام الجاري، لكنه سيتدنى إلى 4.3% في عام 2024.

وعلى الرغم من أن روسيا استفادت أيضا من ارتفاع أسعار النفط، إذ حققت فائضا في عام 2022، قدره 227 مليار دولار، حسب وكالة رويترز، لكن احتياطي روسيا من العملات الأجنبية قد تناقص بما يقارب 50 مليار دولار، بينما غادر البلد ما يقارب 100 مليار دولار بسبب الحرب والعقوبات والقلق من المستقبل، حسب تقديرات المركز الأوروبي لتحليل السياسيات.

يمكن القول إن ألمانيا هي أكثر الدول المتضررة من الحرب الروسية-الأوكرانية، إضافة إلى الدولتين المتحاربتين، لكن قوة الاقتصاد الألماني وتضامن الدول الغربية مع بعضها، والظروف الجوية المواتية عام 2022، جعلها تجتاز الأزمة بأقل الخسائر. العديد من الدول الأوروبية تضررت أيضا، إذ ارتفع فيها معدل التضخم، خصوصا تلك التي كانت تعتمد على وارداتها من روسيا واضطرت لمقاطعتها.

كما انتفعت الدول المصدرة للنفط والغاز جميعا من ارتفاع أسعار الطاقة الناتج عن الأزمة. الارتفاع في أسعار النفط ساهم في إنقاذ الاقتصاد العراقي، مثلا، الذي يعتمد على النفط، بنسبة تقترب من 90%، في تمويل نشاطاته، وهو المورد الوحيد الذي يأتي بالعملة الصعبة، ولا تستطيع شبكات الفساد أن تتحكم به، كما تتحكم بإيرادات الضرائب والجمارك والرسوم، رغم أنها تستفيد من أموال النفط عبر فرض نسبٍ لها من قِيَم العقود الحكومية، إضافة إلى تهريبه أو منح العقود لشركات معينة لقاء عمولات. وإذا ما انخفضت أسعار النفط، وبقي الوضع كما هو عليه الآن، فإن العراق سيتعرض إلى كارثة اقتصادية تهدد وجوده كدولة.

هناك أيضا دول ستنتفع مستقبلا، اقتصاديا واستراتيجيا، من الأزمة الحالية، إضافة إلى النفع المتحقق لها حاليا، ومنها كازخستان وأذربيجان، اللتان لديهما احتياطي كبير من الغاز، وهناك بوادر لسعي أوروبي لتطوير العلاقات مع الدولتين، للتعويض عن خسارة الطاقة الروسية. بعبارة أخرى، أن روسيا لن تكون شريكا تجاريا لأوروبا وأمريكا لفترة طويلة، وبالتأكيد في ظل النظام الحالي، ويمكن تصور حجم الخسارة التي تكبدتها روسيا بسبب مغامرتها في أوكرانيا! الدول العربية المنتجة للغاز، كالجزائر، يمكنها أيضا أن تستفيد فائدة كبرى من هذه الازمة، إن أحسنت استثمارها.

ولا يمكن إهمال النفع الذي حققته الولايات المتحدة من تصدير الغاز السائل إلى أوروبا بأسعار عالية، إضافة إلى تهميش روسيا والصين اللتين تنافسانها على الهيمنة العالمية. الدول المصدرة للأسلحة هي الأخرى انتفعت من التوجه الأوروبي والعالمي لزيادة الإنفاق على التسلح، ولا شك أن الولايات المتحدة في مقدمة الدول المصدر للأسلحة المتطورة، بالإضافة إلى بريطانيا وألمانيا وفرنسا، التي ستتوسع صناعة الأسلحة فيها لتحل محل روسيا كثاني مصدر للأسلحة في العالم، بعد الولايات المتحدة، وفق قناة فرنسا 24. روسيا، التي لم تتوقع أن الحرب في أوكرانيا ستستمر طويلا، تعاني الآن من نقص الأسلحة، لذلك بدأت تستورد السلاح من دول العالم الثالث مثل كوريا الشمالية وإيران!

الأزمة الدولية المستعرة منذ عامين تعيد هيكلة السياسة والاقتصاد والصناعة والتجارة العالمية، وكذلك تراتبية الأهمية الاستراتيجية لدول العالم. الدول التي تتمتع بمؤسسات راسخة وحكومات وطنية مخلصة، ويديرها خبراء في السياسة والاقتصاد والعلاقات الدولية، سوف تستثمر الفرص التي تتوفر أثناء الأزمات الدولية، من أجل تقوية اقتصاداتها ومواقعها الاستراتيجية الدولية. أما الدول التي تنشغل بالخلافات الداخلية والتناحر وتجهيل شعوبها بالخطابات الديماغوجية، فإنها تزداد ضعفا وتتحول بمرور الزمن إلى عبء على المجتمع الدولي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى