الغرق في شبر ثلج

أحمد مصطفى

 

يقول المثل الشائع عمن يرتبك ولا يجيد التعامل مع المواقف أنه “يغرق في شبر ميه”، وهي مبالغة بشأن مياه ضحلة بالكاد تبل القدم لكن العاجز يشعر معها كأنه غريق.

هذا بالضبط ما يمكن قوله عن حال أوروبا وبريطانيا هذه الأيام التي شابها الاضطراب وفوضى المواصلات وإغلاق المطارات وإلغاء الرحلات الجوية بسبب موجة برد قارس وسقوط ثلوج لم يكد يرتفع تراكمها فوق سطح الأرض أكثر من شبر.

من بولندا إلى بريطانيا مرورا بفرنسا، زادت حوادث الطرق يوم الأحد الماضي بأكثر من الربع، وتوالت تحذيرات السلطات للناس بعدم الخروج أو الانتقال إلا للضرورة القصوى. كل ذلك لأن درجات الحرارة انخفضت إلى ما بين عشرة وعشرين درجة تحت الصفر وهطلت ثلوج خفيفة لا تزيد على بضع سنتيمترات قليلة على الأرض.

المفترض أن بلدان أوروبا معتادة على مثل هذا الطقس، بعيدا عن التغيرات المناخية وغير ذلك. وبالتالي لا يفترض أن تصاب الحياة بالشلل لبرودة الجو أو هبوط الثلج، فهذا يحدث كل شتاء وطبيعي أن البلاد مجهزة للتعامل معه. لكن المشكلة أن الخدمات العامة في أغلب تلك البلدان الغنية والمتقدمة اقتصاديا آخذة في التدهور في العقود القليلة الأخيرة.

قبل سنوات ليست بعيدة، كانت سيارات رش الملح على الطرقات لتذويب الثلج وتسهيل حركة السير تبدأ عملها قبل هبوط الثلوج ومع بداية تحذيرات الأرصاد. تلي ذلك كاساحات الثلج التي تفتح الطرق في المناطق المكشوفة كثيفة التراكم الثلجي. كل ذلك يتراجع باضطراد في السنوات الأخيرة.

تلقي الحكومات في تلك الدول المفترض أنها “متقدمة” فشلها ليس فقط في تحسين الخدمات العامة، بل حتى مجرد صيانتها والحيلولة دون تدهورها، على أي طرف غير سياساتها هي. ولولا أن هيئات الأرصاد تعلن بالتفصيل أن مصدر موجة البرد القارس الحالية هو اختلال قوي في طبقات الغلاف الجوي فوق غرينلاند يحمل الرياح القطبية الشمالية بالبرودة الشديدة، لاتهمت حكومات غربية روسيا بأنها المسؤولة عن شلل الحياة فيها!

والمثير فعلا أنه حسب تحليلات الأرصاد فإن الضغط المنخفض يتجمع فوق غرب روسيا قبل أن يتحرك فوق أوروبا. وبما أن “الخبراء” والمعلين يتحدثون هذه الأيام عن أن روسيا “ستستغل الشتاء سلاحا في حربها بأوكرانيا” وصراعها مع الغرب فما كان المرء ليندهش لو خرج مسؤول بريطاني أو بولندي ليقول لجماهير بلاده “هذا برد وثلج بوتين وهو المسؤول عن تعطل مصالحكم”!!! وبدون السخرية السياسية المرة، فإن حرب أوكرانيا لعبت دورا بالطبع في تفاقم التدهور الاقتصادي في أوروبا. ليس فقط بسبب تعقيد أزمة الطاقة والغذاء أكثر وإنما لأن تحويل عشرات المليارات لدعم أوكرانيا من قبل الحكومات الأوروبية يأتي على حساب بنود ميزانياتها الأخرى ومنها الإنفاق على تحسين الخدمات.

إنما لأن ذلك التدهور في الخدمات يعود إلى سنوات، فأسبابه الذاتية في كل بلد مرتبطة بسياساتها وليس فقط بعوامل طارئة مثل أزمة وباء كورونا أو حرب أوكرانيا. فالسياسات المالية التي تخفض الإنفاق الاستثماري في البنية التحتية ومحاولات ضبط الدفاتر بعد كل أزمة، من الأزمة المالية العالمية في 2008 إلى أزمة وباء كورونا في 2020، أدت إلى هذا الوضع المزري الذي يجعل بلادا تصنف على أنها “عالم أول” تغرق في شبر ثلج.

هذا الوضع لا يقتصر فقط على تعطيل المصالح واضطرار الناس للمكوث بين جدران بيوتها لفترة وخسارة مالية للأعمال والشركات. إنما قد يؤدي إلى خسائر في الأرواح سواء لمرضى في حاجة لعلاج طارئ لا يتوفر بسبب شلل النقل والمواصلات أو عجائز يحاصرهم البرد في بيوتهم التي لا يستطيعون تدفئتها لارتفاع كلفة الطاقة عليهم أو حتى بسبب حوادث الطرق وأيضا الانهيارات الثلجية في المناطق كثيفة هطول الثلج. وأنقذت فرق الانقاذ بأعجوبة ثلاثة اشخاص من موت محقق بعدما دفنوا في انهيار ثلجي في إحدى مناطق بولندا، بينما توفي صبية في بريطانيا غرقوا في بحيرة غطاها الثلج بعد وقوعهم فيها.

كل ذلك ونحن لم نواجه سوى موجة برد أولية قبل بدء الشتاء الحقيقي الذي يبدأ رسميا نهاية هذا الشهر. ويصعب تخيل ما سيحدث مع موجات برودة أشد في الشهور القليلة القادمة، وكيف سيؤثر ذلك على حياة الناس في أوروبا وعلى اقتصاد تلك الدول.

لعل مؤشرات على ما يمكن ان يحدث ظهرت هذا الأسبوع، ومن بين ملامحها توجهات “شوفينية” في غاية الضرر بحياة البشر والعلاقات بين الدول. فمع موجة البرد الشديد زاد الضغط على شبكات الطاقة في دول شمال ووسط وغرب أوروبا بما فيها بريطانيا. لذا طرحت الشركة المشغلة لشبكة الطاقة في فرنسا وقف إمداد بريطانيا بالكهرباء من خلال الكابلات البحرية بين البلدين لتتمكن من تلبية الطلب المحلي الأكثر الحاحا.

ولأن فرنسا أكبر دولة في العالم تنتج الطاقة بمحطات تعمل بالمفاعلات النووية، فإنها توفر الكهرباء لدول مجاورة عبر شبكات ربط مثل ألمانيا وبلجيكا وبريطانيا وغيرها. لكن تلك المحطات لا تعمل بكامل طاقتها بسبب أعطال وأعمال صيانة في عدد من محطات الطاقة النووية.

تعد مسألة انهيار فكرة “التضامن” الأوروبي تلك جانبا واحدا من جوانب الآثار السلبية للتدهور الاقتصادي في أوروبا الذي بدأ منذ سنوات ويكاد يصل إلى ذروته الآن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى